فتحت جريمة اغتيال رفيق الحريري البوابات المصفّحة التي كان يتحصن خلفها النظام السوري، وأخطرها البوابة اللبنانية، وهي كانت في تقاليد السياسة السورية <<المعبر الطبيعي>> لمن يريد شراً بسوريا عموماً وبنظامها السياسي على وجه الخصوص...
لقد فتحت الجريمة، بكل ما سبقها من ارتباك وتيه في بيداء السياسة الدولية وتخبط في مواجهة الاتهام المباشر <<للنظام الأمني السوري اللبناني المشترك>>، أبواب جهنم على اللبنانيين والسوريين جميعاً... وحاصرت النظام السوري بعدما أسقطت عنه الحمايات السياسية التي سمحت له من قبل بأن يستمر بفضل رصيد مواقفه ذات الصدى القومي، وقراءته الدقيقة للتحولات التي غيّرت الكون في الربع الأخير من القرن الماضي... كما سمحت له، من ضمن مكاسبه الكبرى، بأن يتولى مرجعية الشأن اللبناني منذ مشاركته في حرب تحرير الكويت من غزوة صدام حسين في مستهل التسعينيات.
يمكن الاستخلاص بشيء من التسرع أن التجربة هنا استعيدت معكوسة...
... وها هي الرياح الدولية تهب عليه فتحاصره وتكاد تفرض عليه نوعاً من الوصاية الدولية، لا هو قادر على رفضها ولا باستطاعته التسليم بمنطقها وتداعياتها الخطرة ليس على مكانته ودوره في منطقته فحسب بل على وجوده ذاته..
حتى الخلصاء من أصدقائه، الذين باتوا قلة قليلة، لم يجدوا ما ينصحونه به غير الانحناء أمام العاصفة، والتسليم بالشروط القاسية حتى الجرح والطلبات التي ما كان ليقبلها في زمن آخر، استنقاذاً لقدرته على الاستمرار، مع وعيه بأنه سيكون غداً غير ما كان في أمسه، ليس فقط في لبنان، بل في سوريا ذاتها...
أما لبنان فقد استسلمت سلطته لهذه <<الوصاية>> الجديدة، منذ لحظة وقوع الجريمة، فأزيح أركانها الذين كانوا محسوبين على <<الوصاية السورية>> بعد التشهير بهم في الشارع، في حين صمد <<رأسها>> مفتدياً نفسه بالآخرين من <<رفاق الخط>>، محتمياً بطائفية موقعه وشرعيته الدستورية متصرفاً وكأن هاتين الحصانتين متلازمتان ومتكاملتان ولا يمكن الفصل بينهما حتى بقرارات من مجلس الأمن الدولي..
أكثر من هذا: لقد تمت إعادة صياغة السلطة في لبنان بما يتناسب مع توجيهات الوصاية الجديدة، المغطاة بالشرعية الدولية... وهكذا سقطت بل أسقطت حكومة وجاءت حكومة انتقالية، وأجريت الانتخابات النيابية بقانون انتخابي كان مرفوضاً فتم قبوله بل واستثمار عيوبه لإنتاج مجلس نيابي يكاد يجاهر بانتسابه إلى <<عصر ميليس>> ولجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد.
ومع أن مشكلة رئاسة الجمهورية بقيت بغير حل فوري، معطلة تكامل التداعيات السياسية للجريمة، فإن لبنان السياسي بدا خاضعاً بإرادته للوصاية الجديدة سواء مثّلها ديتليف ميليس باعتباره <<الأداة التنفيذية>> لإدانة <<عصر الوصاية السورية>> باسم قرار مجلس الأمن، أو السفير الأميركي باعتباره الممثل الشرعي والوحيد للمجتمع الدولي، ومرجع مشروع التغيير...
ومن الطبيعي أن يستغل الراغبون في تطويع النظام السوري، أو في تغييره الشبهات التي لحقت ببعض السوريين في جريمة اغتيال الحريري، والتي لم ينجحوا أبداً في دفعها، بل لعلهم بسوء تصرفهم في الداخل والخارج قد حوّلوها إلى اتهام جدي ومباشر، وبالتالي فإنهم سهّلوا أن يتحوّل لبنان إلى منصة للهجوم على سوريا من خلال ارتباك نظامه وتراجعاته المتسارعة بعدما ألزم نفسه بالموقع الدفاعي الضعيف.
بديهي أن هذه التحولات ستعكس نفسها، بقوة، على معركة رئاسة الجمهورية، خصوصاً أن خطيئة التمديد قد أنهكت <<الوصاية السورية>> ومهّدت لإنهائها بطريقة بائسة ومجللة بدماء رفيق الحريري، وبالغضبة الشعبية في لبنان، وكل ذلك استثمار مجز لمن يقدم نفسه على أنه مرشح العداء لسوريا، المعزز الآن بموقف الشرعية الدولية الذي وضع النظام السوري قيد الاشتباه في المسؤولية عن الجريمة، بل أكد الاشتباه بطلب الاستماع إلى عدد من كبار المسؤولين فيها بصفة <<شهود>> يمكن أن يتحولوا إذا ما استعدنا التجربة مع زملائهم اللبنانيين إلى متهمين بالمشاركة في التخطيط أو التحريض أو التنفيذ في اغتيال الحريري.
على أن الأخطر في الأمر، حاضراً ومستقبلاً، أن يُضبط لبنان السياسي متهماً بالمشاركة في <<مؤامرة لقلب نظام الحكم في سوريا>>، مستفيداً من <<اعتقال>> النظام السوري ضمن دائرة الشبهة، لكي يذهب إلى ما هو أبعد وأخطر من الشؤون التي تظل بداية وانتهاء من صلاحيات الشعب في سوريا ومن حقوقه الطبيعية.
وثمة في لبنان من هو ممتلئ بغرور ادعائه تمثيل الإرادة الدولية أو الشرعية الدولية، أو <<القرار الدولي بالتغيير نحو الفوضى الخلاقة للديموقراطية>>، بحيث لا يتورع عن المجاهرة بالعمل لتغيير النظام السوري..
وغني عن البيان أن مثل هذه الاندفاعة المجنونة من شأنها أن تدمر لبنان ونظامه السياسي القائم على توازنات هشة تلعب فيها سوريا كائناً ما كان نظامها دوراً محورياً. وإذا كان نظام الوصاية السورية مرفوضاً فإن نظام الشراكة والتعاون والعلاقة الأخوية الصادقة مع سوريا يظل إحدى الضمانات الجوهرية للسلام في لبنان، وبالتالي للاستقرار ولثبات نظامه السياسي.
إن <<المجتمع الدولي>> لن يغني لبنان عن سوريا، فكيف إذا ما شكل عازلاً مصفحاً بالأحقاد والعداء بين البلدين الشقيقين.
وإن محاسبة المسؤولين عن جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومن تثبت التهمة عليه من السوريين على وجه الخصوص، لا تستتبع بالضرورة أن يحاصر لبنان سوريا، أو يشارك في حصارها، وأن يتورط في لعبة الكبار التي تريد محاسبة النظام (والشعب) في سوريا على مواقفه خارج لبنان، وإن كانت اتخذت من أخطائه في لبنان الذريعة المثلى.
إن المجتمع الدولي، بقيادته الأميركية، يريد محاسبة سوريا كلها على هويتها العربية والتزامها بدورها القومي، مستغلاً أخطاء نظامها. إنه يريد استخدامها لتأمين احتلاله للعراق، ولتثبيت تمدد الاحتلال الإسرائيلي لكامل فلسطين، مفيداً من محاصرتها بجريمة اغتيال رفيق الحريري.
ومن واجبنا ألا نسمح بأن توظف هذه الجريمة البشعة ضد شعب العراق، أو ضد شعب فلسطين، أو ضد الهوية العربية لسوريا، مع إصرارنا على محاسبة من تتأكد مسؤوليته من رجال نظامها كمخطط أو محرض أو منفذ في اغتيال الرئيس الشهيد.
ومن واجبنا أيضاً، ألا نسمح للانتهازيين وقناصي المناسبات بأن يستغلوا دماء رفيق الحريري لكي يقفزوا إلى سدة الرئاسة بينما كانوا على الدوام من خصومه ومن الآخذين عليه بوجه خاص علاقته الاستثنائية مع سوريا، في حين كان يفاخر حتى آخر يوم في حياته بأنه لم يستقبل أمثالهم يوماً في بيته، ولن يشرّف أحداً منهم بتبني ترشيحه للمنصب الفخم في القصر الجمهوري.
إن من كانوا خصوم رفيق الحريري ونهجه السياسي في حياته لم يتحولوا ولا يجوز أن يُقبل ادعاؤهم بأنهم قد باتوا من أبطال الاستقلال والحرية بل والعروبة بعد اغتياله...
لا تكفي خصومة سوريا شهادة على الوطنية في لبنان وشهادة جدارة للطائفيين بالقفز إلى رئاسة الجمهورية.. حتى لو كان لبنان تحت الوصاية الدولية.