لم تعد المشاهد المفجعة لنتائج الحصار «الفلسطيني» ـ العربي ـ الدولي والإسرائيلي لغزة تؤثر في «المتفرجين» عليها فتحرك وجدانهم وتدفعهم إلى الشوارع يهزون قبضات الغضب ويطلقون شعارات الثورة على المتخلين عن المليون ونصف المليون من الأطفال والنساء والشيوخ والعجائز، فضلاً عن الرجال، ممن هم ـ أو أنهم كانوا؟ ـ في عداد الأهل الذين لا يقعون تحت حصر...
صارت المآسي الجماعية، المموهة بعناوين الخلافات السياسية بين الإخوة، هي عنوان الحياة العربية المعاصرة.
لقد اختلفت الحال عن ذي قبل بعدما تبدلت ملامح »العدو«، فاختفى الإسرائيلي، أو أنه صار في خلفية الصورة، ليتقدم عليه »الشقيق الفلسطيني« داخل »الوطن السليب« و»الأخ العربي« في الأقطار الأخرى التي في طريقها لأن تصير »سليبة«، على امتداد المساحة بين المحيط والخليج.
واختلاف الحال وتبدل ملامح العدو يتجاوز حدود فلسطين التاريخية ليشمل كامل الأرض العربية، حيث صار العربي عدو العربي بالمطلق... وفي داخل القطر الواحد صار »المواطن« هو عدو »المواطن« الآخر، إما لاختلاف الدين أو الطائفة أو العنصر أو الانتماء السياسي...
لكأن العرب يأكلون لحوم بعضهم البعض، داخل أوطانهم، وفي المحيط من حولهم، الأقرب فالأبعد...
صار العربي يطلب الانفصال عن شريكه في الوطن، وينزع عنه الهوية التي تجمعه به حتى لا يؤخذ بجريرتها.
صار العربي عدو العربي، داخل الوطن المعني أو خارجه...
من فلسطين إلى لبنان، إلى العراق، فإلى فلسطين مجدداً، فإلى العراق كرة أخرى، فإلى فلسطين مرة ثالثة: صارت المذابح الأهلية بعض الأخبار اليومية التي لا تستوقف اهتمام أحد...
صار »العرب« يتفرجون على مشاهد القتل الجماعي، أو على النتائج المفزعة لحصار دول بكاملها، أو مناطق تضم مئات الألوف من السكان المستضعفين، وقد تحجرت عواطفهم وشلت إراداتهم، فيكتفون بمصمصة الشفاه، وقد تبكي بعض النساء لمنظر طفل يموت أمام عيون الأمة جميعاً، لأن طبيبه عجز عن إنقاذه بعدما قطعت الكهرباء عن المستشفى، ومنع إقفال المعابر وصول الأدوية إليه...
والحقيقة أن »الكهرباء« قد انقطعت عن العقول وعن العواطف، فتناقص التضامن إلى تعاطف والتعاطف إلى إشفاق والإشفاق إلى كره للذات في ظل العجز عن الفعل، أي فعل.
إن العرب يتفرجون على اغتيال غدهم بعيون مفتوحة...
لقد شهدوا مأساة فلسطين الأولى، فالثانية، فالثالثة،
وشهدوا مأساة لبنان التي تكررت فصولاً على امتداد ثلاثين عاماً أو يزيد،
وشهدوا مأساة العراق الأولى في الحرب على إيران، ثم الثانية في غزو الكويت، ثم الثالثة في الاحتلال الأميركي بكل ما حفل به من قتل جماعي وتشريد الملايين وتدمير أسباب الحياة في أغنى بلد عربي، ونسف ركائز الدولة الواحدة الموحدة فيه.
... وها إن العراق مهدد بأن يصير دولاً عدة، بحسب أعراقه وطوائفه والمذاهب،
وها إن حصار الجوع المضروب على غزة، بكل آثاره المدمرة على أهلها، قد بات يصوّر على أنه مسألة حزبية... في حين أن الضفة الغربية مسألة حزبية أخرى، أما فلسطين الأرض والشعب والقضية، فلسطين الثورة والشهداء وحبة العقد في الوطن العربي، قد تراجعت لتصبح في مكان ما بين الذكرى وبين الحلم.
إن الصورة التي تنقل من غزة لا تجسد مأساة أهلها فحسب، بل إن لها دلالاتها العميقة في السياسة، خصوصاً إذا ما جُمعت إلى الصور التي تنقل من العراق مشفوعة بخطب قيادات زمن الاحتلال، وإذا ما جُمعت إلى بعض الدعوات الانفصالية التي عادت إلى التداول في لبنان بلسان نفر من أبطال الحرب الأهلية و»الصلح« مع إسرائيل بشروطها...
ومع التقدير لكل الجهود التي تبذل من أجل حماية حق الفلسطينيين الذين شردهم الاحتلال الإسرائيلي بين أدنى العالم وأقصاه، في العودة إلى أرضه، فإن حماية بقاء الفلسطينيين في فلسطين يكاد يتقدم على كل ما عداه في هذه اللحظة.
إن الحصار المفروض على غزة ليس عقاباً لحماس. إنه عقاب جماعي للشعب الفلسطيني كله، في غزة والضفة الغربية والشتات.
إن المؤتمرات لا تطعم الجوعى ولا توصل الدواء إلى المهددين بالموت، سواء منها تلك التي تعقد تحت راية »السلطة« في رام الله، أو تحت راية »حماس« داخل غزة وخارجها... بل إن هذه المؤتمرات قد »تشرعن« الانفصال وتبرره، خصوصاً أن لكل منها من يرعاه ويعتمده وسيلة لاستيلاد »فلسطينه«.
كذلك فإن الحوار الممذهب بين الأديان، بعيداً عن القضية الوطنية، بل وعلى حسابها، يلغي فلسطين ـ الوطن، ويجعلها بنداً في الاختلافات الفقهية بين العلماء الأجلاء من شيوخ وأحبار وحاخامات... خصوصاً أنه يتجاوز واقعة تفصيلية بسيطة مفادها أن إسرائيل ما تزال تحتل فلسطين بكاملها، عملياً وواقعياً.
إن فلسطينيي غزة، بالذات، وربما كل الفلسطينيين، يرددون ما سبق لهم أن قالوه ألف مرة من قبل، ثم قاله من بعدهم اللبنانيون وتلاهم العراقيون: إن حصار الجوع الذي تصحبه العودة الاضطرارية إلى ما قبل اختراع النار واكتشاف النفط (الذي يستعدي العالم على العرب) إنما تشترك فيه الدول العربية وإسرائيل، جنباً إلى جنب... بل إن الدور العربي فيه أقسى وأشد مضاضة.
وبقدر ما يستحق القاضي المصري الذي اتخذ القرار الشجاع بضرورة وقف الغاز المصري عن إسرائيل (ولو بسبب اقتصادي يتصل بالمخادعة في الأسعار) فإن الموقف الرسمي المصري يستعصي على أي تفسير إلا إذا اعتبرناه ابتزازاً لحماس، يكلف المليون ونصف المليون من الفلسطينيين في غزة (الذين يرون أنفسهم »مصريين« إلى حد كبير) أن يرجعوا القهقرى قرناً بكامله، فيأكلوا قمح الطيور، ويعيشوا لياليهم في ضوء السراج أو الشموع، ويعيدوا استصلاح »بوابير الكاز« التي كانوا يفترضون أنهم قد تجاوزوا بالكهرباء والغاز الحاجة إليها...
من حق تلك الأم الفلسطينية أن تقول، بغير ما ضلوع في التحليل السياسي، إن العرب واليهود يشتركون في حصار غزة... وأن تشير إلى المصابيح المشعة فوق جدار الحد الفاصل بين إسرائيل والقطاع، وهي تقول: ماذا كان جرى لو أن مصر، أمنا، خصتنا ببعض هذا الغاز الذي ترسله إلى اليهود فيفضح من أرسله مرتين؟!
[ [ [
ليس علينا سوى أن ننتظر الحرب الأهلية الفلسطينية، التي نشهد حلقاتها السياسية تتوالى ممهدة للانفجار الهائل الذي قد يصاحب »الانتخابات الرئاسية والتشريعية« التي تعهّد بإجرائها رئيس »السلطة« مع انتهاء ولايته...
وعسى أن تكفي السلال الغذائية التي أرسلت إلى غزة على عجل، والبالغة قيمتها ثلاثة ملايين دولار، حتى ذلك الحين!