مليون ومئتا ألف قتيل، وأضعاف هذا العدد من الجرحى..
أكثر من أربعة ملايين مهجّر، ثلثهم في سوريا، وحوالى الربع في الأردن، ومئتا ألف يتوزعون على أقطار الخليج، وأكثر من خمسين ألفاً في لبنان، وعشرات الآلاف يهيمون على وجوههم في بعض دول أوروبا، في انتظار أن تمنّ عليهم بالإقامة، إضافة إلى مَن سبقهم فحظي بمثل هذه النعمة...
هذه بعض «الإنجازات» التي حققتها قوات الاحتلال الأميركي في العراق في خمس سنوات فقط!!
تضاف إليها «إنجازات» أخرى لا تقل أهمية:
أربعة ملايين مهجر داخل العراق، في أوسع وأبشع عملية تهجير عرفها أي شعب، في أي زمان ومكان... والبشاعة فيها أنها ناجمة عن الفتنة التي استولدها الاحتلال ورعاها، مستغلاً «التراث الدموي» لعهد الطغيان الذي كان قد دمّر مناعة هذا الشعب العظيم وقواه الحية عبر المغامرات الحربية التي خاضها، ضد إيران الثورة الإسلامية بداية، ولمدة ثماني سنوات مخيفة بتكاليفها، ثم بغزوه الكويت وقد كان الذريعة المباشرة للحرب التي تواصلت متقطعة بين 1991 و2003 ثم كان الهجوم العسكري الذي انتهى ـ وبأسرع من أي توقع ـ باحتلال كامل بلاد الرافدين!
من حق الرئيس الأميركي جورج بوش أن يقف أمام شعبه ليتباهى بهذه الإنجازات نافياً أي شعور بالندم، برغم التكلفة العالية في الأرواح والمال... بل إنه أظهر شيئاً من الزهو: «النجاحات التي نراها لا يمكن إنكارها»!!
قلة من الطغاة في العصر الحديث، لعل أبرزهم أدولف هتلر، استطاعوا تحقيق مثل هذا الإنجاز الخارق للمألوف (وللمشاعر الإنسانية فضلاً عن شرعة حقوق الإنسان) في زمن قياسي لا يتجاوز السنوات الخمس.
صحيح أن جورج بوش يعترف بأن «المكاسب التي حققناها هشة ويمكن أن تضيع»... ولكنه يستدرك فيقول «إننا أمام نصر استراتيجي في الحرب على الإرهاب».
هل من الضروري الإشارة إلى أنه قبل الاحتلال الأميركي لم يكن في العراق ـ بحسب اعتراف الإدارة الأميركية ـ أي وجود لتنظيم «القاعدة».. في حين أنه، اليوم، يكاد يكون جيشاً تتحرك مجموعاته علناً في أنحاء مختلفة من العراق، بما في ذلك العاصمة بغداد ذاتها! وبتسهيلات أميركية على الأرجح!
لننتقل إلى الصفحة الأكثر إيلاماً:
مع «احتفال» جورج بوش بنصره كان عشرات الآلاف من الأميركيين يتظاهرون في مدن متعددة مطالبين بعودة أبنائهم إلى الديار، مستفظعين «هذه الجريمة ضد الإنسانية التي تُرتكب بدم بارد، بل ويتباهى بها مرتكبها».
أما استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات محترمة بينها بعض الصحف الكبرى فتشير إلى: «أن هذه الحرب لم تكن تستحق هذا العناء» ـ حسب 64٪ ممن سُئلوا، و«أن الانتصار لم يعد ممكناً» حسب 53٪ منهم.
في حين تلخص رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي الموقف بالكلمات التالية: «تكلفة أمننا القومي كانت هائلة. جيشنا مثقل بالأعباء، وسمعتنا لحقها الضرر، وأكلاف الحرب تهدد اقتصادنا».
هذا عنهم فماذا عنا يا أخا العرب؟!
لم يعد بين المسؤولين العرب، في ما عدا استثناءات معدودة، مَن
يصف الاحتلال الأميركي للعراق باسمه الصريح. بعضهم يتحدث عن «الوجود» الأميركي، والبعض الآخر يتلطى خلف القرار المتأخر لمجلس الأمن الذي «اعترف» بالاحتلال، كأمر واقع...
بل لم تعد «الجماهير العربية» تتابع أخبار المجازر الفظيعة التي ترتكبها قوات الاحتلال مباشرة، أو تنظيم «القاعدة»، الذي تحتشد تحت لافتته قوى شريرة آتية من نواح شتى، والتي صارت في الفترة الأخيرة «تخدم» الاحتلال، بسبب حَوَلها السياسي وضياعها عن هدفها الأصلي واندفاعها إلى حمام الدم الجماعي المنظم تحت لافتة الفتنة المذهبية، صريحة ومكشوفة وبلا تمويه!
وعلى مدى خمس قمم عربية، تعددت عواصم انعقادها، وتعددت أسباب المخاصمات والمشاحنات والمقاطعة وتدني مستوى الحضور في بعضها، فإن قلة قليلة من الملوك والرؤساء والقادة والأمراء والشيوخ ملكت من الشجاعة ما مكّنها من الحديث عن الاحتلال الأميركي باسمه الصريح!
وفي قمة الرياض، في مثل هذه الأيام من العام الماضي، استهول حضور قمة الرياض أن يستخدم ملك السعودية كلمة «الاحتلال» في خطابه الافتتاحي... لكن الكلمة لم يكن لها ما يستوجبه استخدامها من فعل في مواجهة الواقع المريع الناجم عن ذلك الاحتلال!
طغى خوف العرب من الفتنة التي وجدت بين أهل القمة من يزيدها اشتعالاً ومن يغذيها ومن يحاول الإفادة من نقلها إلى أقطار أخرى، على اهتمامهم بما يجري في العراق لأهله، مما هو قابل للانتقال بنارها إليهم.
كاد المواطنون العرب، بتأثير خوفهم من الفتنة، ينسون الاحتلال الأميركي...
أما الحكام فقد سلّموا بالهزيمة الجديدة وانصرفوا إلى تحصين عروشهم ولو بتسهيل تمدد النيران إلى أقطار أخرى «بعيدة» عنهم، نسبياً..
هل هو اكتشاف أن يُقال إن مشاريع الفتنة التي كادت تحرق لبنان بنارها هي «منتج عربي» إلى حد كبير، لنصرة الاحتلال الأميركي، (ونصرة إسرائيل في مواجهة شعب فلسطين أيضاً)؟!
... ولو أن الحديث عن مقاطعة بعض حكام العرب قمة دمشق يتصل بمطلب مواجهة هذا الاحتلال في العراق (فضلاً عن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين) لفهمنا وسلّمنا بوجاهة الموقف...
أما وأن هذه المقاطعة تصب عملياً في مصلحة هذا الاحتلال، في العراق كما في فلسطين، وإن تذرّع أصحابها بأسباب أخرى، يتورعون عن إعلانها، فإن الرأي العام العربي سيحاسبهم بوصفهم «متواطئين» إن لم يكن كشركاء للاحتلال في المسؤولية عن الدم العربي المراق، وعن تدمير بلد عربي عظيم، هو العراق، فضلاً عن فلسطين التي عز نصيرها بين الساعين إلى سلام بأي ثمن مع «دولة اليهود في إسرائيل»، إعزازاً لسفاح العراق والشريك المعلن لإسرائيل في حربها على لبنان: جورج و. بوش، الذي يمكن اعتبار خطابه أمس صفعة جديدة لأصدقائه الحميمين من عرب أوهام السلام الأميركي ـ الإسرائيلي!