... ولما تعاظم التيه، وغشّى الغلط عيون أدعياء الحرص على الدين الحنيف، صار طبيعياً أن يجرفهم عمى التعصب وأن ينحرفوا برصاصتهم فيغتالوا به <<الرسالة>> وحملتها وحفظتها والمبشرين بها ممّن نجحوا في الوصول بها إلى حيث لم تصل من قبل، وثبتوا الإيمان في صدور الذين كاد يأخذهم الانبهار بالحضارة الغربية إلى الارتداد عن الإسلام.
كان لا بد أن يغتال هؤلاء الأشقياء أبناء العتم، داعية يفضحهم نجاحه الساحق، مثل مصطفى العقاد، لأن وجوده وأمثاله شهود ناطقون على خيبتهم وإساءاتهم إلى الإسلام بتشويه صورته وتقديمه كأنه انغلاق على العصر ومجافاة للحضارة وعداء للإنسان.
أي إجرام هذا الذي لا يكتفي بقتل الفرح واجتماع شتات الأهل الذين نثرهم الاحتلال الإسرائيلي في أربع رياح الأرض، بعيداً عن فلسطينهم وقدسها الشريف، بل تمتد ألسنة حريقه إلى <<الرسالة>> ومبدع ترجمتها إلى لغات العالم الحية، والذي نجح في اختراق الطوق الإمبريالي الصهيوني حيث عجزت الدول بنفطها وأموالها وأبواقها والبروباغندا الهزيلة التي ترتد على العرب (والمسلمين) بأفدح الأضرار؟!
لقد أسعدني حظي بأن التقيت مصطفى العقاد وحاورته واستمعت إلى أحلامه لساعات طويلة، كما كنت قريباً من بعض إنجازاته السينمائية الرائعة التي ابتدعت لعرب القرن العشرين صورة تليق بنضالهم الوطني، وللمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ما يبلور في دينهم الحنيف معاني العدالة
والإنسانية والتسامح والحض على العلم والجهاد في سبيل الله والتآخي والتكاتف في وجه الأجنبي الدخيل.
سمعت أحلام مصطفى العقاد التي غادرنا قبل أن يستطيع تنفيذها لأن أصحاب المال من العرب بخلاء على دينهم كرماء على مباذل دنياهم ومتعها، يمتنعون عن تمويل شريط سينمائي عن صلاح الدين الأيوبي بينما ينفقون المليارات على ما يسيء إلى دينهم وإلى تاريخهم وإلى حاضرهم وخصوصاً إلى مستقبلهم.
وبهرني هذا المبدع العبقري الهادئ بأكثر مما تتوقع، المثقف بأكثر مما تُقدّر، الصبور بأكثر مما تستطيع، وهو يتابع السعي لتحقيق أحلامه متجنباً السقوط في شباك عبدة أنفسهم من حكام الظلام في الأرض العربية، الذين اشتروا دنياهم بدينهم وأرضهم وشعوبهم..
كما بهرتني قدرته على اختراق هوليود، وتمكّنه من استقطاب كوكبة من نجومها لإنتاج شريطيه الرائعين، ونجاحه في صد المؤامرات الصهيونية ومحاولات التخريب التي ضبط فيها بعض العرب متلبسين بالجرم المشهود.
مصطفى العقاد ابن سوريا العروبة وفتاها الأبر الذي ارتقى بمفهوم العروبة (عمر المختار) والإسلام (الرسالة) إلى ذروة التألق، كان لا بد أن يتميّز أيضاً برحيله.
وهكذا فإن عمى التعصب الذي يخرج أهله من الإسلام قد طاولت تفجيراته أهل الإسلام، بل وبعض خيرة دعاته وبعض أنشط العاملين لإيصال <<رسالته>> بوجهها الأنقى إلى شعوب العالم أجمع.
فالذين اغتالوا مع مصطفى العقاد جمهور الأفراح اليتيمة في عمّان إنما اغتالوا معه رسالة الإسلام، وكشفوا أنفسهم بأنهم بتعصبهم وانغلاقهم وسوء فهمهم للدين وتحجر قلوبهم والشطط الذي يطبع أعمالهم، إنما يقتلون الحلم بالتقدم واللحاق بالعصر.
لقد اغتالوا بعض الحلم العربي في غد أفضل.
لقد اغتالوا روح الإبداع من داخل الإيمان من أجل حياة تليق بكرامة العرب والمسلمين.
مصطفى العقاد: هل تغفر لنا؟!
مصطفى العقاد: أيها السبّاق دائماً، لا نجد ما نقوله لك إلا أنك كعادتك كنت الطليعة.
ليرحمنا الله.