تستعد مراكز الابحاث الاميركية القريبة من الحزب الديموقراطي للانتخابات الرئاسية التي ستجرى في بلادها في خريف السنة المقبلة اقتناعاً منها بأن سيد البيت الابيض المقبل سيكون ديموقراطياً. ويعني الاستعداد وضع دراسات عدة تتضمن وصفاً دقيقاً للمشكلات والأزمات الاقليمية والدولية، فضلاً عن المحلية، والتي سيكون على الرئيس الديموقراطي التعامل معها نظراً الى تأثيرها الكبير على وزن بلاده ودورها في العالم، وتعني في الوقت نفسه اقتراحات تسويات تحفظ من جهة المصالح الحيوية والاستراتيجية للولايات المتحدة وتؤمن في الوقت نفسه حلولاً كاملة او جزئية من شأنها الانعكاس ايجاباً على السلام العالمي وخفض التوتر في مناطق الازمات المستعصية. طبعاً لن نتحدث اليوم عن كل القضايا والازمات التي هي موضع درس وتدقيق في المراكز المشار اليها اعلاه لاستحالة ذلك، بل سنكتفي بدراسة دقيقة وان غير مفصلة عن سوريا التي هي الآن جزء أساسي من المشكلة بل الأزمة المستعصية في لبنان والتي يمكن ان تكون اذا حسنت نياتها وانحسرت مطامحها جزءاً من الحل، يتضمن وصفاً لنظام بشار الاسد الذي هو امتداد لنظام والده الراحل حافظ الاسد ولاهتماماته الاقليمية واللبنانية واقتراحات لمعالجة "تمرده" على المجتمع الدولي.
ماذا في الدراسة المذكورة؟
فيها دعوة الى كل المهتمين بالوضع السوري الى التركيز على بنية النظام وهيكليته ومصالحه بدلاً من الالتفات الى مواقف قادته وتصريحاتهم والى تفسير مواقفه انطلاقاً من ذلك كله. فنظام آل الأسد في رأيها نجح في اقامة "دولة مستقرة" وفي تجنيب نفسه وبلاده تحديات داخلية خطيرة على مدى عقود. لكنه ربما نظراً الى طابعه الديكتاتوري فشل في المجال الاقتصادي وفي تنفيذ سياسته القومية العربية المعلنة. وتناقض كهذا غالباً ما يؤدي الى نوع من الاضطراب وربما الثورة الداخليين. لكن النظام السوري تدبر أمره ونجح في تلافي ذلك على الأقل حتى الآن. ولم يأت نجاحه وليد مصادفة أو حظ. بل أتى نتيجة سياسة طبقها واعتمد فيها المواجهة والراديكالية مع الخارج وخصوصاً المعادي للعرب وقضاياهم المحقة. وهي سياسة وليست نزوة شخصية تنبع من المصالح الحيوية للنظام كما حددها قادته من زمان. ومن هذا المنطلق تتخذ سوريا الأسد مواقف قوية من تنامي النفوذ الاميركي في منطقتها اقتناعاً بأن ذلك يهدد مصالحها. وقد بلغت هذه المواقف حد تحول سوريا الدولة او النظام الاكثر عداء لاميركا في العالم العربي.
ما هي المصالح الحيوية لنظام الاسد في سوريا وفقاً للدراسة الاميركية نفسها؟
يفيد الجواب ان لسوريا هذه مصلحة في اعادة صوغ دولة العراق على نحو يشابهها وتتطابق نظرتها بل سياستها الخارجية مع نظرته وسياسته. أما اذا تعذّر تحقيق ذلك فان المصلحة السورية قد تتحول مئة في المئة لتصبح قيام عراق غير مستقر اقتناعاً من النظام في دمشق ان تكاليف عراق كهذا وتكاليف سياسة تساعد جدياً في تحويله كذلك ستكون صفراً بالنسبة اليه أي من دون عواقب وخيمة او على الأقل جدية عليه. وجزء من هذا الاقتناع مبني على الحلف الاستراتيجي القائم منذ سنوات بين سوريا الاسد وايران الاسلامية والذي ليس نزوة بل حاجة للدولتين اذ يوفر لسوريا الحماية وكذلك الدعم الاقتصادي. وهي تحتاج الى الاثنتين. طبعاً قد يعتقد البعض ان الاصلاح الاقتصادي في سوريا مصلحة حيوية اخرى لنظامها. لكن الدراسة لا تعتقد ذلك لأن الاصلاح يوسع قاعدة الاقتصاد ويجعل من الطبقة الوسطى السورية ركيزته الأمر الذي يكبّر حجم الاقتصاد والمكاسب التي يجنيها الشعب السوري منه لكنه في الوقت نفسه يهدد بخفض حصة النظام من كعكة المكاسب الاقتصادية ويهدد ايضاً بقيام طبقة مطالبة بتحرر سياسي بعد الاقتصادي الأمر الذي يهدد النظام في اساسه وجوهره. انطلاقاً من هذا التحديد للمصالح يتعامل النظام السوري مع العالم بـ"تكتيكين". الأول، هو الازدواجية وربما النفاق وذلك بالدخول مع العالم في محادثات ديبلوماسية مضنية وطويلة يحصل من خلالها على بعض التنازلات وربما على ازالة عقوبات معينة عليه من دون ان يتنازل هو أو ان يكون لديه النية للتوصل الى تفاهم نهائي او الى تغيير للسلوك. اما "التكتيك" الثاني، فهو المقاومة التي تنجح مع فكرة يؤيدها العالم العربي وهي ان سوريا تقود المواجهة مع الغرب لذلك فانها تستحق دعم كل الذين يرفضون الغرب أو لا يثقون به.
اين لبنان في النظام السوري وفق الدراسة الاميركية نفسها؟
لا تزال السيطرة التامة على لبنان أولوية لسوريا الاسد (أولاً الراحل حافظ والآن بشار) ولذلك اسباب عدة بعضها اقتصادي. ولا يزال احباط المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري وشهداء لبنان الآخرين يرتدي اهمية قصوى بل فائقة. ذلك ان ثبات المحكمة ونجاحها في اثبات تورط ما لنظام الاسد في الاغتيالات المشار اليها يؤديان قطعاً الى اضعاف قبضته على السلطة بل على سوريا كلها.
ما هي افضل وسائل التعامل مع سوريا الاسد؟
اولاً، تفيد الدراسة الاميركية، يجب اقناع سوريا بأن تجاوزها عدداً من الخطوط الحمر وتصرفها على النحو الذي يراه العالم حالياً في العراق ولبنان وفلسطين وغيرها سيهددان بالخطر النظام القائم فيها. وثانياً تنصح باعتماد العالم وزعيمته اميركا سياسة قاسية وصلبة ومتشددة وضاغطة تحملها على تغيير سلوكها. وتنصح ثالثاً بفرض عقوبات غير عسكرية عليها لاستمرارها في تحدي المجتمع الدولي. وتنصح رابعاً بالامتناع عن تقديم تنازلات احادية الى سوريا من دون مقابل لها وعن بناء اجراءات ثقة معها اذا لم تكن مستعدة لتقديم شيء بل اشياء في المقابل. وتنصح خامساً بأن تعمل اميركا وشركاؤها الاوروبيون بتناغم حماية لمصالحهم في المنطقة ومصالح حلفائهم وخصوصاً لبنان الديموقراطي والقوة الدولية في لبنان و"الستاتيكو" الجديد في الجنوب. في اختصار تنصح الدراسة اميركا الحاكمة ربما ولكن المقبلة ايضاً بالتأكيد بأن تكون ذات افق واسع وشديدة ومتماسكة وغير مبهمة في سياساتها.