أدّى الغزو السوفياتي لأفغانستان في عام 1979، إلى ازدياد وزن باكستان في الاستراتيجيّة الأميركيّة المواجهة لموسكو، فيما قاد الاحتلال الأميركي لأفغانستان إلى تناقص أهمية نظام إسلام آباد بالنسبة إلى واشنطن.
ويبدو أنّ ما حصل من تداعيات عقب ذلك الاحتلال في رؤية واشنطن الإقليميّة للدور الباكستاني، ينطبق أيضاً على دول الجوار العراقي، بعد سقوط بغداد بيد الأميركيّين، سواء في رؤية الإدارة للمنطقة بعدما استقرّت قوّاتها في قلب الشرق الأوسط، أو من خلال صورة تلك الدول المجاورة لبلاد الرافدين في المنظور الأميركي من حيث تعاونها مع واشنطن، أو ممانعتها، أو عرقلتها لوجودها في العراق.
كانت السعوديّة أوّل من دفع الفاتورة، وخصوصاً عندما كان الغزو الأميركي للعراق متداخلاً ومتشابكاً مع أحداث 11 أيلول حيث كانت غالبية منفّذي الهجوم على برجي التجارة من أبناء المملكة، وعندما رُبط «الإرهاب» في الرؤية الأميركيّة الجديدة للمنطقة ليس فقط مع «الديكتاتورية»، وإنّما أيضاً مع «التشدّد الإسلامي»، الذي كان واضحاً أنّ الأصابع الأميركيّة تشير من خلاله إلى الوهابية، والأصولية. وعمليّاً، فإنّ الرؤية السعودية للعراق قد تمّ تجاهلها من قبل واشنطن أثناء غزو 2003، بخلاف ما حصل في حرب الكويت عام 1991عندما امتنع الأميركيّون عن الإتيان بتركيبة جديدة حاكمة لبغداد، كان يمكن أن تكون غير مرضية بالنسبة للعواصم العربية الثلاث التي وقفت ضدّ صدام حسين آنذاك، أي الرياض والقاهرة ودمشق، وهو ما تمّ عكسه في عام 2003.
وبالفعل، فإنّ الرياض لم تستعد دورها عند الأميركيّين إلا عندما بدأت نذر المواجهة الأميركية - الإيرانية في صيف عام 2005، لمّا اتجهت واشنطن إلى محاولة تحجيم دور طهران الإقليمي (الذي تعاظم كثيراً بعد سقوط صدام حسين)، كذلك عندما اتجهت إلى محاولة تقليص وإضعاف النفوذ الإيراني في عراق (ما بعد 9 نيسان 2003)، وهو ما جعل الرؤية الأميركيّة لـ«العراق الجديد» تقترب في السنتين الماضيتين من الرؤية السعودية، ولو أنّ آليات تحقّق ذلك لم تتّضح سككها بعد، فيما لوحِظَت منذ ذلك الحين الرعاية الأميركية المتجدّدة لدور الرياض الإقليمي في مواضيع التسوية ولبنان ودارفور وباكستان.
في هذا السياق، كانت دمشق من أوّل المتضرّرين من تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق، لمّا دفعت فاتورة سياستها المتناقضة مع أجندات الأميركي الغازي والمحتل، حيث كانت المواجهة الأميركية مع سوريا في لبنان، (منذ صدور القرار 1559 في 2 أيلول 2004)، حصيلة لتناقض سياساتهما في بلاد الرافدين، إضافة (وهذا هو الأساس) إلى كون رؤية واشنطن للمنطقة، في مرحلة ما بعد سقوط بغداد، قد تبدّلت عمّا كانت عليه خلال المرحلتين، أي1976و1990، اللتين أعطت فيهما واشنطن تفويضاً لسوريا في لبنان.
هنا، لم تكن تركيا، العضو في حلف الأطلسي والحليف الاستراتيجي لواشنطن في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى بعد مرحلة السقوط السوفياتي، بمنأى عن تأثيرات ذلك السقوط. وإذا كان البعض يعزو ذلك إلى رفض البرلمان التركي فتح جبهة شمالية أمام واشنطن قبيل أسابيع من غزو العراق، فإنّ هذا لم يكن أكثر من عامل إجرائي مساعد لسياسة واشنطن العامّة التي اتجهت إلى استخدام العامل الكردي وتقويته في «العراق الجديد»، حيث لم تكن واشنطن غافلة، في هذا الصدد، عمّا سيجرّه ذلك من استعادة لقوّة حزب العمال الكردستاني، الذي توطّنت قيادته العسكرية والسياسية واللوجستية في شمال العراق تحت رعاية حلفاء واشنطن العراقيّين من الأكراد، فيما بدا واضحاً كيف انحازت واشنطن إلى الرؤية الكردية، ضدّ تلك التركية، في موضوعي كركوك والفيدرالية منذ صدور دستور عام 2005.
أدّى ذلك كلّه إلى جعل الحضور الأميركي في العراق عاملاً زلزالياً في بنية المنطقة الجيو - سياسية، وهو ما انعكس في تولّد صراعات كانت ميادينها البؤر المتفجّرة في الشرق الأوسط، مثل العراق ولبنان وفلسطين، وفي البؤرة الجديدة التي يبدو أنها ستنفجر في شمال العراق بين الأكراد والأتراك: لم يقتصر هذا على صراعات دوليّة وإقليميّة في تلك المناطق، وإنما امتدّ إلى انقسام المنطقة بين محوري واشنطن من جهة ودمشق/ طهران من جهة ثانية، ما أدّى إلى نشوب صراعات إقليمية - إقليميّة، ولو بشكل غير مباشر، كما يحدث بشكل ما في لبنان بين الرياض ودمشق، أو ما يمكن أن يحصل من نذر مجابهة بين حلفاء واشنطن من أكراد العراق وأنقرة، وربما أيضاً الأحزاب الكردية الإيرانية المسلّحة، المدعومة من حزب العمال الكردستاني وحكومة إقليم شمال العراق مع طهران، وهو ما بانت مؤشّرات عليه أخيراً عبر قصف المدفعية الإيرانية للقرى الكرديّة العراقية المحاذية للحدود التي تؤوي مسلّحي تلك الأحزاب، وما أعقب ذلك من إغلاق الإيرانيّين للحدود دام أسابيع.