اعتبر الإسلاميون الانقلاب العسكري على السلطان عبد الحميد عام 1908، انقلاباً قامت به أساساً عناصر من يهود الدونمة (من تحوّل نحو الإسلام من الرعايا اليهود العثمانيين في القرن السابع عشر) بسبب رفض السلطان عرض تيودور هرتزل حول قيام الدولة اليهودية في فلسطين. ورأوا في أنّ ما حصل من ترافق لعملية تقويض أركان الدولة العثمانية وإزالتها مع وعد بلفور وتنفيذ اتفاقية سايكس- بيكو، يثبت ذلك.
وقال الإسلاميون بأن ما تفوّه به الجنرال أللنبي عند دخوله القدس عام 1917: «الآن، انتهت الحروب الصليبية»، أو ما قاله الجنرال غورو عند قبر صلاح الدين الأيوبي بعد دخوله دمشق إثر معركة ميسلون: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»، يثبت بأن هناك «غارة على العالم الإسلامي» هي ردّ على الأندلس ومعركة بواتييه وسقوط القسطنطينية وحصار فيينا.
لم يبتعد القوميون العرب عن ذلك التفكير، وإن انفردوا برؤية تبتعد عن «صراع الأديان» (أتت نظرية هانتنغتون بتعبير لفظي ملطّف عنه)، الذي يراه الإسلاميون متخلّلاً في صراع الشرق المسلم مع الغرب والدولة العبرية. وترى هذه الرؤية في قيام إسرائيل محاولة لقصم ظهر العرب عبر سلب فلسطين التي كانت جسراً جغرافياً للفعالية العربية عبر التقاء إقليمي النيل والهلال الخصيب. وتعتبر الهجمة الغربية على المنطقة محاولة لمنع قيام الدولة العربية الواحدة التي امتدت من البيرينيه إلى أسوار الصين في زمن الأمويين، لتشكل عبر ذلك تهديداً لقلب الحضارة الغربية الجغرافي.
رفض الليبراليون واليساريون العرب تلك النظرات الإسلامية والعروبية. فقال الأوّلون بأن حالة الاستعمار كان سببها تخلّف العرب والمسلمين وأن غلبة الغرب سببها العلم والتمدّن، فيما قال اليساريون بأن الاستعمار والصهيونية تعبيران عن ظاهرة واحدة هي المطامع الاقتصادية للإمبرياليات العالمية في الثروات العربية، وفي فتح أسواق جديدة للبضائع الغربية، وفي السيطرة على مواقع استراتيجية وعلى ممرات مائية تشكّل قلب العالم القديم وجسوراً بين القارات.
في فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، اقترب العروبيّون أكثر من تفكير الإسلاميين في ذلك، ليرى الاثنان في تركيز «القطب الواحد للعالم» على الهجمة على المنطقة العربية، إثباتاً لـ«نظرية الاستهداف الغربي للعرب والمسلمين»، حيث يحاولون إثبات دعواهم هذه من خلال الإشارة إلى تركّز جهد واشنطن للسيطرة على الشرق الأوسط، من دون بقية مناطق العالم، بعد التفرغ من هزيمة الكتلة السوفياتية، وعبر واقعة إفراط الغرب على ضفّتيْ الأطلسي في تشجيع سلوك إسرائيل القاضم لبقية أراضي فلسطين. وكذلك من خلال الإشارة إلى الاتّجاهات الغربية لتحجيم باكستان وتركيا بعد انتهاء الحرب الباردة، على رغم تقديمهما خدمات استراتيجية كبرى للمعسكر الغربي في حربه مع السوفيات، فيما تُعامل دول مثل الهند، كانت مع موسكو أو أقرب إليها، معاملة تفضيلية من واشنطن في عالم ما بعد عام 1989.
زاد ذلك التفكير كثيراً مع الاحتلال الأميركي للعراق الذي من الواضح، عبر أربع سنوات من مساره، أنه لا يستهدف بلاد الرافدين فقط في عملية بسط النفوذ والسيطرة، بل يشمل بأهدافه منطقة تمتد من حدود الصين الغربية حتى البحر المتوسط. وإن حجم الانشغال الفكري والثقافي والمعلوماتي في مراكز الأبحاث والجامعات الغربية بالعرب والمسلمين والدين والفكر الإسلاميين في مرحلة «ما بعد موسكو» يذكِّر الكثيرين بذلك الذي كان في تلك المراكز البحثية والأكاديمية تجاه الموضوع السوفياتي- الشرق الأوروبي، وحيال القضايا الأيديولوجية الخاصة بالماركسية. وفي الوقت نفسه، تحصل نزعة من «رهاب الإسلام» في الغرب تعيد الذاكرة إلى زمن مكارثي وهستيريا العداء للشيوعية، وقبل ذلك إلى ما جرى في بريطانيا ضد أفكار الثورة الفرنسية أيام الحروب النابليونية حتى هزيمة الإمبراطور الفرنسي عام 1815.
إذا تركنا انزياح العروبيين نحو مواقع الإسلاميين في «نظرية الاستهداف الغربي»، هذه النظرية التي تجد الآن الكثير من التأييد في المنطقة الممتدة بين جاكرتا وطنجة، فإن من الواضح أن الليبراليين واليساريين العرب والمسلمين (حتى في تركيا وإيران) لم يدخلوا بعد في مطارحات فكرية حقيقية لتلك النظرية وللوقائع التي يقدمها مناصروها لتسنيدها، وما زالوا يخلطون ولا يفرقون بينها وبين «نظرية المؤامرة» التي تستند كثيراً إلى وقائع أو وثائق غير مثبتة، مثل «وثيقة إيكرمان» و«بروتوكولات حكماء صهيون».
بعد قرن من الزمن على انطلاقها، ألم يحن الوقت للدخول في نقاش فكري حقيقي ومسؤول حول «نظرية الاستهداف الغربي للعرب والمسلمين»، أم الأمر سيظل رهن التجاذبات الأيديولوجية؟