قرأ الأستاذ رياض الترك بدقّة حدود التقاربات الأميركية ـــــ السورية الأخيرة، من خلال دعوته، وهو الحريص منذ سقوط بغداد على محاولة ضبط ساعة المعارضة السورية على إيقاع «العامل الدولي»، إلى عقد ما سُمّي «المجلس الوطني لإعلان دمشق» بعد أيام قليلة من انعقاد مؤتمر أنابوليس، حيث أتت تطورات الأسابيع اللاحقة لهذا المجلس، المنعقد في أوّل أيام شهر كانون الأول، لتبين فشل المسعى من أجل فك التحالف السوري ـــــ الإيراني، عبر بوابتي «التسوية» و«قصر بعبدا»، وهو ما أعاد الأمور بين واشنطن ودمشق إلى المربع الأول.
كانت فكرة «المجلس الوطني لإعلان دمشق» قد طُرحت في أواخر الربيع الماضي بعد وصول الجهود التي كرّستها القمة العربية في العاصمة السعودية في آذار الماضي لإحداث تقارب سعودي ـــــ سوري، إلى الطريق المسدود، في ظلّ تجمّع الغيوم لمجابهة أميركية ـــــ إيرانية تحت عنوان «ملف طهران النووي».
وقد لوحظ في هذا الصدد، تركيز الأستاذ الترك على محاولة إيجاد جسم لهذا المجلس لا يكون أساساً من الأحزاب الموجودة في «إعلان دمشق»، بل من «المستقلّين»، لتفادي تجربتي «التجمع الوطني الديموقراطي»، المؤسَّس منذ عام 1979، والسنتين الماضيتين من «إعلان دمشق»، عندما لم يستطع الأستاذ الترك وضعهما في المآلات المبتغاة منه بسبب وجود أحزاب قوية فيهما، مثل «حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي»، كانت معارضة لتوجهاته، فيما لوحظ أيضاً، رفض أكثرية أطراف «إعلان دمشق» أي موقف متمايز أو مضاد تجاه «المشروع الأميركي في المنطقة» عند مناقشة مشروع مسودة البيان السياسي للمجلس، إلى حدود وصلت لرفض أيّ طروحات «معتدلة» حيال ذلك، مثل عبارتي «رفض المشروع الأميركي ـــــ الصهيوني» أو «المشروع الصهيوني المدعوم من الإدارات الأميركية».
أكَّد ما حصل في يوم انعقاد المجلس انتصار توجهات الأستاذ الترك، الذي قاد تكتلاً مؤلفاً من الليبراليين والإسلاميين والأحزاب الكردية (ما عدا الحزب اليساري الكردي) ضدّ الناصريين وشيوعيي «حزب العمل»، حيث مرّر ما أراده في البيان السياسي مكتفياً بإعطاء خصومه عبارة «العدوان الصهيوني المدعوم من الإدارات الأميركية»، مع السكوت التام عن أميركا ومشروعها في المنطقة وكلّ المواضيع تحت شعار «الديموقراطية أولاً»، ومُسقطاً قيادات «الاتحاد الاشتراكي» و«حزب العمل الشيوعي» في انتخابات هيئة الأمانة العامة عبر تكتل تصويتي كان واضحاً من مجرى عملياته واتجاه الأصوات أنه مُدبَّر ومبرمج.
قاد هذا إلى جعل «إعلان دمشق» أقرب إلى حزب، حيث لا يوجد التصويت في التحالفات، بل التوافقات في التوجهات والتعيينات المسماة من الأحزاب في المناصب، وهو ما أدى إلى إسقاط صفة الائتلاف أو التحالف العريض عن «إعلان دمشق» ليصبح تياراً واحداً، من ثلاثة ألوان، صار سهل الانقياد بتركيبته الحالية، يجمعه عامل المراهنة على «العامل الدولي» في تحقيق أجنداته، لا على «العامل الذاتي»، مستنداً إلى تحليل مؤدلج يرى «الديموقراطية» مفتاحية للقضايا الوطنية والاجتماعية و«الإثنية»... في الوقت الذي يقوم فيه أرباب هذا الطرح بالانزياح (منذ أربع سنوات ونصف أعقبت سقوط بغداد) عن مواقفهم السابقة في القضايا الثلاث المذكورة باتجاه تفسيرات ليبرالية تضع العروبة واليسار وراءها وباتجاه فهم جديد يتلاقى مع توجهات الإدارة الأميركية حيال موضوع «الأقليات القومية».
هنا، كان يوم الأول من كانون الأول عام2007 تاريخاً لانشقاق المعارضة السورية إلى اتجاهين مختلفين، عبر مبادرة قام بها زعيم أحد الاتجاهين، مثلما قام المرحوم خالد بكداش بشقِّ الحزب الشيوعي السوري عبر بيان 3 نيسان 1972 بدعم من السوفيات والسلطة السورية.
بالتأكيد ستكون ولادة التيار المعارض الآخر، المناهض للتيار الأميركي في المعارضة السورية الذي أصبح متبلور الملامح والتوجهات والقوام، تدريجية، إلا أنها ستأخذ ملامح لتيار يأخذ أبعاداً أربعة: قومية عربية ـــــ وطنية سورية ـــــ ديموقراطية ـــــ اجتماعية، وهو شيء كامن في المعارضة السورية ويقترب من الوضوح.
وهذا ما سيشكّل عملية تاريخية، تمنع تكرار ما فشل فيه الوطنيون العراقيون، المعارضون لصدام حسين أثناء عامي 2002 و2003، في عرقلة عملية تحوّل المعارضة العراقية إلى الخط الأميركي بأكملها، من أجل إنشاء خطّ وطني ديموقراطي في المعارضة السورية، يرى التداخل بين البعدين بالتوجه المعارض في ظلّ الوضع الناشئ، بعد 11 أيلول2001 و9 نيسان 2003، عن تصادم «الدولي» الغازي للمنطقة، مع «الإقليمي»، الممانع لأسباب تتعلق بالأدوار الإقليمية، فيما لا يرى هذا الخط أن الولايات المتحدة قد استطاعت في 9 نيسان 2003، إسقاط صدام حسين فقط، بل العراق بأكمله. هذا إذا لم يكن هذا اليوم بمفاعيله على العرب أكبر وأخطر من مفاعيل يوم 15 أيار 1948.
هل سيستطيع المعارضون السوريون، المضادون للخط الأميركي، التجمع في تيار واحد، بعدما امتلك التيار الأميركي الأداة التنفيذية، في ظلّ العاصفة الكبرى التي من الواضح أنها ستنشب في كامل الشرق الأوسط خلال العام القادم، بين «الدولي» المتمثّل بواشنطن، و«الإقليمي» المتجسّد بدمشق وطهران؟