تتزامن في هذه الفترة الجهود الأميركية والأوروبية في مجلس الأمن لتشديد الضغوط والعقوبات على إيران مع أعمال القصف والحصار التي تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة.
وكان الرئيس الأميركي بوش قد دعا خلال زيارته الأخيرة لمنطقة الشرق الأوسط إلى التطبيع العربي مع إسرائيل وإلى التعامل مع إيران كدولة عدوّة تستحق الحصار والعزل لأنّها تهدّد «الاستقرار في المنطقة» من خلال دعمها لحركات تقاوم الاحتلال في كلٍّ من فلسطين ولبنان والعراق!
ورغم أنّ بوش يدّعي أنّه رئيس «مؤمن»، فإنّ «المؤمن لا يلدغ من الجحر مرّتين». فقد كانت مواقف وممارسات إدارة بوش هي المسؤولة عقب 11 سبتمبر 2001 عن تقوية جماعات التطرّف في العالم الإسلامي، وذلك حينما اعتمدت هذه الإدارة أسلوب الاحتلال والقهر العسكري في المنطقة والغطرسة السياسية على عموم العالم، فأعطت بهذه الممارسة العسكرية والسياسية دعماً لعناصر التطرّف ولفكر الغلوّ المنتشر الآن في أكثر من بلد عربي وإسلامي.
أمر مشابه يتكرّر الآن في المنطقة العربية وجوارها حيث تريد إدارة بوش إقناع الحكّام والشعوب أنّ ما تقوم به إسرائيل من عدوان مستمر على الفلسطينيين ومن رفض لإنهاء احتلال عمره أكثر من أربعين سنة، ومن اغتصاب حقوق في الأرض والوطن على مدار ستة عقود، إنّما هي ممارسات تستحق التسليم بها والتطبيع مع أصحابها، بل والاصطفاف معهم ضدّ «العدو الإيراني».
كما كانت الأعذار في القرن الماضي ضدّ «العدو الشيوعي»! لقد جال بوش مؤخّراً في أكثر من بلد عربي وهو ينفخ في بوق فيه ثقوب كثيرة، ممّا جعل تصريحاته كاللحن النشاز في منطقة لا تستسيغ الآن سماع الموسيقى الأميركية العازفة فقط على أوتار «المارشات» العسكرية!
فقد أطلق بوش عبارات مرغوبا بها عربياً (كالإشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي وإلى ضرورة قيام دولة فلسطينية)، لكن مضمون هذه العبارات جاء إسرائيلياً بالكامل. فقد دعا بوش إلى التخلّي عن مرجعية قرارات الأمم المتحدة، وإلى التسليم بالوقائع الجديدة القائمة على الأرض، وإلى إسقاط حقّ العودة لملايين من اللاجئين الفلسطينيين، كما دعا إلى عزل ومحاربة كل من يمارس حقّ المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. ولا أعلم كيف استطاع بوش أن يجمع في تصريحاته بين وصف «الاحتلال الإسرائيلي» لأكثر من أربعين عاماً وبين رفضه لحقّ مقاومة الاحتلال!
أليس الاعتزاز الأميركي بالاستقلال عن التاج البريطاني هو حصيلة المقاومة؟ ثم لماذا تضامنت أميركا مع المقاومة الفرنسية ضدّ الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية ولم تقل آنذاك بضرورة قبول «الأمر الواقع» واعتماد المفاوضات فقط؟! ولِمَ كانت المقاومة الأفغانية ضدّ الاحتلال الشيوعي الروسي مشروعة وهي محرّمة الآن ضدّ الاحتلال الإسرائيلي الذي يدنّس أرضاً مقدّسة لجميع المسلمين والمسيحيين في العالم!!
هو «جهاد» إذا كان يخدم المصالح الأميركية، وهو «إرهاب» إذا كان من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي!
لقد أصبح واضحاً الآن أنّ جولة بوش في المنطقة كانت تتعامل «تكتيكياً» مع الملف الفلسطيني بينما الهدف الإستراتيجي للجولة كان «الملف الإيراني»، وكان من المفترض منطقيا أن تكون زيارة بوش من أجل تعزيز نهج مختلف سارت عليه وزارة الخارجية الأميركية منذ مطلع العام الماضي عقب توصيات بيكر/هاملتون، وهو نهج اعتمد المفاوضات مع كوريا الشمالية وباشر قنوات اتصال وتفاوض مع طهران ودمشق.
ودعا إلى دور أميركي فعّال في الصراع العربي/الإسرائيلي عموماً، وفي الملف الفلسطيني خصوصاً، بعدما تجاهلت إدارة بوش هذا الملف لسنوات عديدة، لكن جاءت زيارة بوش للمنطقة وكأنّها استمرارية لنهج «الصقور» في الإدارة وبشكل لا يخدم التوجّهات الجديدة للخارجية الأميركية.
إنّ إدارة بوش الآن هي كالطير الذي لم يحسن الطير كصقرٍ ثاقب ولا يقدر أن يكون الآن طائراً كحمامة سلام. فالظروف الداخلية الأميركية والأوضاع الدولية الحالية لا تسمح لإدارة بوش بالقيام في حروب جديدة أو توسيع دائرة الانغماس العسكري الأميركي في العالم، بعد الفشل الكبير الذي مُنيت به هذه الإدارة في حربها على العراق وفي التعثّر بأوضاع أفغانستان.
وكان أولى لهذه الإدارة أن تحفظ ماء وجهها وأن تساعد حزبها الجمهوري في الانتخابات القادمة، من خلال تبنّي توصيات بيكر/هاملتون التي جاءت تعبيراً عن إرادة وطنية أميركية وعمّا يطالب به الرأي العام الأميركي، وعن الرسالة التي حملتها الانتخابات النصفية في نوفمبر 2006.
لكن ما يشجّع إدارة بوش على السير مجدّداً في «نهج الصقور» هو واقع الحال العربي بالجملة وبالمفرّق. فلا تنسيق ولا توافق بين مصر وسوريا والسعودية، وهي الدول التي في تضامنها يتحقّق التضامن العربي الفعّال، وفي خلافاتها ينعدم الموقف العربي الواحد وتظهر الصراعات في أكثر من ساحة عربية، أيضاً، ما زالت إدارة بوش تراهن على صراعات عربية/إيرانية وعلى مزيج من الجهل والجاهلية في شعوب العالم الإسلامي.
ممّا يجعل البعض ينشدون الدعم الأميركي والإسرائيلي ضدّ أخوة لهم في الدين أو في المواطنة، فلو كانت هناك جدّية فعلية لدى إدارة بوش في التعامل مع الملف الفلسطيني وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية لما كان لهذه الإدارة أن تتجاهل قرارات الأمم المتحدة والمبادرة العربية.
ولما كان لها أن تشجّع على مزيد من الصراعات الفلسطينية، إذ كيف سيتمّ بناء دولة فلسطينية من دون غزّة وبلا توافق فلسطيني داخلي؟ وكيف تكون هناك دعوة أميركية جادّة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي مع دعوة أخرى للقبول بالأمر الواقع الذي يعني التسليم بالمستوطنات وبالجدار الإسرائيلي وبإلغاء حق العودة؟
وكيف سيتمّ تكريس أي اتفاقيات على صعيد الملف الفلسطيني بلا تفاهم وتفاوض مع سوريا التي لديها أيضاً أرض محتلّة ولها علاقات وطيدة مع فصائل فلسطينية فاعلة؟!
إدارة بوش اعتبرت شارون «رجل سلام» حينما كان يقتل الفلسطينيين ويدمّر مناطقهم ويحاصر قيادتهم.
إدارة بوش أعلنت تأييدها لإسرائيل كدولة يهودية يحقّ لها ضمّ أي يهودي في العالم وطرد من قد يشكّلون خطراً على الغالبية اليهودية فيها، بينما ألغت هذه الإدارة حقّ العودة لأصحاب الأرض الأصليين والشرعيين.
إدارة بوش أسقطت حقّ المقاومة ضدّ الاحتلال وساوته بالإرهاب المرفوض عربياً وإسلامياً ودولياً، بينما أعطت مشروعية لإرهاب الدولة الإسرائيلية ضدّ مئات الألوف من الفلسطينيين الأبرياء المحاصرين في غزّة.
إدارة بوش تدعو إلى الديمقراطية في المنطقة وهي التي رفضت التعامل مع نتائج الانتخابات الديمقراطية التي أوصلت حركة حماس إلى قيادة حكومة السلطة الفلسطينية.
إدارة بوش تدعو اللبنانيين إلى رفض التدخّل السوري في شؤونهم، وهي التي دعمت الحرب الإسرائيلية الوحشية على لبنان في العام 2006 بل ربّما تكون من شجّع أصلاً على القيام بها!
إدارة بوش تدعو العراقيين والعرب إلى وقف التعامل مع إيران، وهي التي غزت العراق وتحتله، ودمّرت مقوّمات الدولة فيه وعناصر الوحدة بين أبنائه ومناطقه!
يبدو أنّ إدارة بوش في أشهرها الأخيرة ستكتفي بإدارة الأزمات وفق مقولة: «عليّ وعلى أعدائي». وهي سياسة مدمّرة للمصالح الأميركية قبل أي شيء آخر.