لعلّ من المهمّ أن يتساءل فرقاء الصراع في لبنان، عن مدى مسؤوليتهم المباشرة عن الأزمة الراهنة وعن الاحتقان السياسي المتزايد وتوفير المناخ المناسب للتدهور الأمني ولوقوع قتلى وجرحى أبرياء.
فاللبنانيون أينما وُجدوا يتساءلون: إلى متى هذا الانقسام السياسي والفراغ الدستوري اللذان يلفّان عنق الدولة اللبنانية ويهدّدان الوطن بأسره وجوداً وأمناً، بعدما تهدّدت وانحدرت سبل العيش والحياة الاجتماعية للمواطنين في كلّ مناطقهم وطوائفهم؟
إنّ ما يحدث في لبنان اليوم هو أكبر من لبنان نفسه. فأطراف إقليمية ودولية عديدة وظّفت، طوال العقود الأربعة الماضية، أرض لبنان وصراعاته المحلية من أجل مشاريعها الخاصة و«حروبها المفتوحة»، لكنّ ذلك ما كان ليحدث لولا تعامل اللبنانيين (كما الأطراف الإقليمية والدولية) مع لبنان بأنّه «ساحة صراع» وليس وطناً واحداً لكلّ أبنائه.
ورغم شغف اللبنانيين بمتابعة التطورات الدولية وبقدرتهم المتميّزة على التحليل السياسي الذي يربط أصغر قضية محلية بأبعاد دولية كبرى، فإنّ أفعال وسلوك معظمهم لا يخرج عن الدائرة الضيّقة للطائفة أو المذهب أو المنطقة. وهم «يكونون كما يُولّى عليهم»، و«يُولّى عليهم كما يكونون».
فتتكرّر المأساة في كلّ حقبة زمنية، طالما أنّ جذور المشكلة كامنة في العقلية الضيّقة التي تتحدّث عن «العولمة» من جهة، وتتصرّف بوحي من مصالح الحي والشارع و«الزاروب» من جهة أخرى!
ربّما يتفاءل البعض الآن بطبيعة «تعدّد الطوائف» في كلٍّ من خندق الموالاة والمعارضة، وبعدم وجود انقسام شبيه بحال لبنان عام 1975 بين منطقتين: شرقية وغربية بألوان طائفية حادّة. هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أنّ الحرب اللبنانية اختتمت بصراعات مسلّحة داخل كلّ منطقة بين ميليشيات وقوى المنطقة نفسها.
وذلك يعني أنّ المراهنين على إشعال الساحة اللبنانية الآن يريدون حروباً أهلية لبنانية وليس حرباً واحدة.. يريدون الصراعات بألوان سياسية (مع الحكومة أو المعارضة ـ مع المقاومة أو ضدّها ـ مع هذا الطرف الإقليمي أو الدولي، أو ضدّه)، بينما واقع الحال هو موزاييك من القوى الطائفية والمذهبية، والتي إن تصارعت فستكون صراعاتها بطابع «شرقية/ شرقية» و«غربية/ غربية»، وليس صراعات سياسية تستبعد العنف المسلح من أساليبها.
فكم هو حلم بعيد أن تصل التجربة الديمقراطية اللبنانية إلى مرحلة لا يتردّد فيها شعار «بالروح بالدم»، وبأن يكون الاحتكام فيها فقط إلى صندوق الاقتراع وإلى «الورقة والقلم»!
لبنان اليوم أمام مفترق طرق: إمّا اليقظة من كابوس الواقع والدخول فعلاً في وفاق وطني داخلي حقيقي يبدأ بتكريس انتخاب العماد ميشال سليمان المجمَع عليه داخلياً وخارجياً، أو العودة للفوضى الأمنية والسياسية التي تستهدف لبنان وسوريا والفلسطينيين والمنطقة العربية كلّها.
والأمر يتوقّف الآن على كلّ الأطراف المحلية اللبنانية، وعلى تفاهم سوريا والسعودية ومصر معاً قبل غيرها من دول المنطقة، وعلى إدارة بوش التي ساهمت في تأزيم الأوضاع أكثر من مرّة.
فليس من مصلحة لبنان والعرب جميعاً تجدّد الفوضى الأمنية على الأرض اللبنانية، لكن التدخّل الأجنبي لا يحدث على أرضٍ فراغ. فالمحاولات الحثيثة لتدويل الأزمة السياسية اللبنانية تحتاج إلى أزمات أمنية تبرّر مظلّة التدويل، تماماً كما حدث في جنوب السودان حيث تحوّلت القضية الداخلية السودانية إلى المحافل الدولية فأفرزت اتفاقات على كيفيّة إدارة السلطة والثروات، وتتطلّع بعد أزمة دارفور إلى تحويل كيان السودان إلى «نظام فيدرالي» ذي مرجعية دولية وبحماية قوات أجنبية!
حرب لبنان عام 1975 بدأت بالتحذير من مشاريع «قبْرصة» لبنان (نسبة لما حدث قبل ذلك في قبرص)، والآن هناك تحذيرات من «عرْقنة» لبنان.. بينما الصفة الحقيقية لما هو مطلوب أن يحدث هي «صهْينة» لبنان والمنطقة كلّها، من خلال النجاح في تفتيت الكيانات العربية القائمة ومن ثمّ إعادة تركيب كلٍّ منها (كما حدث في العراق والسودان) بأشكال فيدرالية و«نفحات ديمقراطية»، وبمضامين طائفية وعرقية مهدّدة بالانفجار في أيّ وقت.
إنّ تسهيل المبادرة العربية وتنفيذ مضامينها سيكون امتحاناً لكلّ الأطراف، اللبنانية والعربية والدولية، عن مدى تمسّكها بوحدة لبنان وسيادته واستقراره وأيضاً بالعملية السياسية الديمقراطية وبالحريّة المنشودة لشعب لبنان. وليكن الاحتكام مستقبلاً في معالجة القضايا العالقة إلى صندوق الاقتراع وإلى الانتخابات المنصوص عليها في عناصر المبادرة العربية.
إنّ الهزيمة العسكرية لإسرائيل مرّتين في لبنان (2000 و2006) واضطرارها للانسحاب من أراضيه بفعل المقاومة اللبنانية، لم تكن هزيمة نهائية للمشروع السياسي الإسرائيلي، بل سعت إسرائيل منذ تحرير لبنان من احتلالها عام 2000 إلى جعل أيّة مقاومة لها بمثابة إرهاب دولي تجب محاصرته وعزله، وإلى جعل الموقف من المقاومة اللبنانية مسألة ينقسم عليها اللبنانيون.
طبعاً، هو سؤال لبنانيّ مشروع عن مستقبل سلاح المقاومة وعن مصير دمجها بالجيش اللبناني، وعن ضرورة حصر العناصر المسلحة بالمؤسسات الرسمية فقط، لكن هذا الأمر أصبح، كما القضايا اللبنانية الأخرى، مادة في صراع إقليمي/ دولي ومشاريع سياسية للمنطقة، عوضاً عن اعتباره مسألة وطنية عامة اشترك كلّ لبنان في تحمّل تبعاتها خلال فترة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وهي قضية مرتبطة حتماً بتوفر سياسة دفاعية لبنانية تضمن ردع أي عدون إسرائيلي.
هناك اتفاق بين المعارضة والموالاة على الإشادة بدور الجيش اللبناني وبحكمة ووطنية قائده، وبحرصه على ضبط الأمن عموماً دون المسّ بحقّ حرّية التعبير بأشكاله كافّة، بما في ذلك حقّ المسيرات الشعبية.
لكن هل نسي اللبنانيون أنّ الجيش اللبناني كان حتى عام 1990، وقبل الحرب اللبنانية عام 1975، بؤرة صراع داخلي لبناني وأنّه شهد في فترات الحرب انقسامات حادّة، قاتلت الألوية العسكرية فيه بعضها البعض وانتهت الحرب بمعارك قامت بها قيادته العسكرية آنذاك ضدّ كلّ الأطراف، بما فيها ميليشيا «القوات اللبنانية» التي كانت تنافس العماد ميشال عون على السلطة العسكرية في المناطق ذات الكثافة السكانية المسيحية؟
أيضاً، فإنّ الجيش اللبناني كان قبل عام 1990 محسوباً على فئة دون أخرى من اللبنانيين، وكانت غائبة عن عقيدته العسكرية أيّة مفاهيم لماهيّة العدوّ، ولم يكن (الجيش اللبناني) في حال من التعبئة المعنوية أو السياسية ضدّ العدوّ الإسرائيلي.
رغم أنّ إسرائيل قامت عام 1968 (وقبل وجود أي عمل فلسطيني مسلح على أرضه وقبل وجود أي قوات سورية) بالاعتداء على مطار بيروت ودمّرت كلّ الطائرات المدنية اللبنانية، دون أيّ ذريعة أو سبب آنذاك سوى سعي إسرائيل لتحطيم الاقتصاد اللبناني وإدخال لبنان عنوةً في أتون الصراع معها بعدما تجنّب لبنان ذلك في حرب عام 1967 فنفذ بجلده، لكن لم ينفذ بلحمه وعظمه ودمه كما أثبتت بعد ذلك تداعيات الأمور.
إنّ اتفاق الطائف عام 1989 رسم هدفاً للقوات المسلحة اللبنانية: «يجري توحيد وإعداد القوات المسلحة وتدريبها لتكون قادرةً على تحمّل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة العدوّ الإسرائيلي»، كما ورد في الفقرة (ج) من البند الثالث من وثيقة الطائف.
وقد نجح العماد إميل لحود، الذي كان قائداً للجيش قبل تولّيه رئاسة الجمهورية، في إعادة بناء الجيش اللبناني وتوحيده وإعداده على مفاهيم واضحة عمَّن هو العدوّ ومن الصديق، كذلك فعل ويفعل العماد ميشال سليمان منذ تولّيه قيادة الجيش.
لذلك، فإنّ حديث قوى الموالاة الإيجابي عن الجيش اللبناني لا يمكن أن يكون صادقاً أو دقيقاً، ما لم تشمل هذه الإيجابية أيضاً من أشرفَ على إعادة بناء الجيش وتوحيده وفق مفهوم وطني واحد جديد!
طبعاً، هناك وسط الأطراف اللبنانية اليوم من هم ضدّ اتفاق الطائف، لكن وثيقة اتفاق الطائف نصّت على قضايا لبنانية سياسية داخلية هامّة لم تنفَّذ بعد، وهي لو نُفّذت لما كان هناك أيّ خوف من فتنة داخلية جديدة في لبنان.
فاتفاق الطائف طالب بضرورة إلغاء الطائفية السياسية، وبانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، وباستحداث مجلس للشيوخ ومجلس قضائي أعلى لمحاسبة ومحاكمة المسؤولين.. فأين هي هذه القضايا الهامّة التي لو جرى تطبيقها فعلاً خلال ال15 سنة الماضية لما تأزّمت الأمور السياسية داخلياً كما هو حالها الآن؟
لقد اقتسم الحاكمون منذ عام 1990 الحكم ومنافعه، وحاول كلّ طرف أن يجعل من نفسه ممثلاً لفئة أو طائفة أو منطقة، فاستمرّت العقلية نفسها التي كانت سائدة قبل الحرب عام 1975، ونشأ جيل ما بعد الحرب في بيئة سياسية فاسدة معتقداً أنّ المشكلة هي في «الآخر» اللبناني أو السوري (أو ربّما في اتفاق الطائف نفسه لدى البعض)، لكن لم يدرك هذا الجيل الجديد أنّ مشكلة وطنه ومشكلة مستقبله، هي في التركيبة السياسية التي تتولّى إعادة البناء السياسي، والتي ترفض التخلّي عن امتيازات النطق السياسي باسم هذه الطائفة أو المذهب أو المنطقة.
حبّذا لو أنّ الشباب اللبناني يتحرك أيضاً للمطالبة بحرّيته من زعامات سياسية طائفية موروثة، بعضها يورث أبناءه العمل السياسي وهو ما زال على قيد الحياة السياسية!
حبّذا لو أنّ الجيل اللبناني الجديد يطالب بسيادته على القرار السياسي اللبناني المتعلّق بمستقبله ومستقبل وطنه، وذلك من خلال بناء مجتمع لبناني جديد لا طائفي، تكون خميرته هذا الجيل الجديد المتحرّر من الإرث السياسي التقليدي القابض على لبنان لعقود طويلة.
لو يتساءل الشباب اللبناني: تُرى لماذا تمارس الديمقراطية في لبنان فقط من خلال توريث معظم الحاكمين والمعارضين لأبنائهم وأقاربهم؟ ثمّ لماذا تنتقل البندقية من كتف إلى كتف على جسم هذا الزعيم أو ذاك، وتتغيّر تحالفاته الإقليمية والدولية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لكن لا يتغيّر عنده قانون التوريث السياسي؟
أليس حال كهذا هو المسؤول عن الاستقواء بالخارج كلّما دعت الضرورة؟ ألا يجعل هذا الأمر من لبنان مزرعة لا وطناً؟ ويحوّل الناس من شعب إلى قطيع يُساس ثمّ يُذبَح عند الحاجة؟!
أوَليس ذلك هو السبب الأول لكثرة التدخّل الإقليمي والدولي في الساحة اللبنانية؟