بغضّ النظر عن المنافسة الحاصلة الآن بين هيلاري كلينتون وباراك أوباما من أجل الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة في شهر نوفمبر القادم، فإنّ الصراع الحقيقي في الانتخابات الأميركية سيكون بين معسكرين من الشركات والمؤسسات الكبرى التي تقوم عليها الحياة السياسية الأميركية.
وقد نشأت لبنات هذا الصراع الحاصل الآن بين «معسكريْ النفوذ» في أميركا مع نهاية عقد الثمانينات حينما انهار الاتحاد السوفييتي وسقطت معه حقبة الحرب الباردة التي تعاملت معها كل مواقع النفوذ بالمجتمع الأميركي وكأنّها حرب مستمرّة إلى أجل غير محدّد زمنياً.
فالتحوّل الذي حدث بعد سقوط المعسكر الشيوعي أنّ المجتمع الأميركي بدأ يشهد فرزاً بين من كانوا يستفيدون من «الحرب الباردة» ومن «الحروب الساخنة» المتفرّعة عنها في بقاع العالم، وبين مجموعات أخرى في أميركا وجدت مصلحة في إشاعة مناخ «العولمة» ومحاولة تثبيت الريادة الأميركية للعالم عبر التحكّم بالتجارة العالمية وأسواق المال وصناعة التكنولوجيا وفق نظرية العالم هو «قرية صغيرة واحدة»!
هذا المعسكر «المالي/التجاري/التقني»، الذي يمكن تسميته اختصاراً بمعسكر «السلام»، يجد في الحزب الديمقراطي مظلّة لمفاهيمه وأجندته بعدما كان معسكر «صناعة الحروب والنفط» قد انخرط مع الحزب الجمهوري في حقبة ريغان وما تلاها من عهد جورج بوش الأب، وهي حقبة شهدت طيلة 12 عاماً تصعيداً شاملاً في الصراع مع الاتحاد السوفييتي وحروباً ساخنة امتدّت من أفغانستان إلى إيران والعراق ومنطقة الخليج، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان، ثمّ إلى حرب الخليج الثانية وتداعياتها الإقليمية، وهي حروب أثمرت كلّها نموّاً هائلاً في صناعة وتصدير الأسلحة وأدّت إلى التحكّم بالثروة النفطية وتوظيف ارتجاج أسعارها صعوداً وهبوطاً وتجارة.
وقد نجح معسكر «السلام» في إيصال بيل كلينتون للرئاسة الأميركية، فكانت حقبة التسعينات هي حقبة «العولمة» وانتعاش الاقتصاد الأميركي والتجارة العالمية، بينما انخفضت في هذه الفترة ميزانية الدفاع الأميركي وعوائد شركات الأسلحة والنفط والصناعات الحربية. وكما كانت فترة حكم الديمقراطيين أيام جيمي كارتر (1976-1980) متميّزة بسعيها لتحقيق تسويات سياسية للصراع العربي/الإسرائيلي، كذلك كانت حقبة كلينتون (1992-2000)، بينما طغت الحروب على سمات حكم الحزب الجمهوري في الثمانينات وفي العقد الحالي.
وليست صدفةً أن تكون محصّلة كل المعلومات والتحقيقات التي جرت حتى الآن بشأن أحداث 11 سبتمبر 2001، قد أكّدت عدم قيام إدارة بوش بأي إجراءات لمنع حدوثها، وبأنّها استفادت من هذه الأحداث لتحقيق أجندة تقوم على تغيير السياق الذي عاشته أميركا والعالم خلال حقبة كلينتون، ولتُحرِّك من جديد كل عناصر التأزّم والصراع في قضايا عالمية عديدة، وفي صراع دولي جديد عنوانه «الحرب على الإرهاب»، وهو صراع قالت عنه إدارة بوش إنّه مفتوح زماناً ومكاناً!!
وكانت محصّلة فترتيْ »بوش الابن« حتى الآن تعاظم دور المؤسسة العسكرية الأميركية وتضخّما كبيرا في عائدات أرباح مصانع الأسلحة وشركات النفط!! لذلك، أجد أنّ هذه السنة الانتخابية هي سنة حاسمة ومهمّة جداً في إطار الصراع بين «المعسكرين» داخل المجتمع الأميركي: «معسكر الحروب» الذي يدعم الإدارة الحالية والحزب الجمهوري، و«معسكر السلام» الذي يقف بقوّة الآن خلف الحزب الديمقراطي كائناً من كان مرشّحه للرئاسة.
وما يدفعني الآن للقلق هو التساؤل عمّا قد تفعله إدارة بوش في هذه الفترة القصيرة الباقية من عهدها كي تضمن فوز مرشّح الحزب الجمهوري أو تفرض في الحدّ الأدنى وقائع عالمية جديدة تدفع الرئيس الأميركي «الديمقراطي» للاضطرار إلى التعامل معها حتى ولو كانت تختلف مع برنامجه وأجندة حزبه و«المعسكر السلمي» الداعم له. وقائع قد تكون محصّلة لمغامرات جديدة (بعد المغامرة الفاشلة في احتلال العراق)، كالقيام بضربات عسكرية جوية وبحرية ضدّ إيران وسوريا ولبنان وغزّة، وبتنسيق مشترك مع إسرائيل على جبهات عدّة.
وربّما تجد القوى الأميركية المراهنة على حروب جديدة وعلى «وقائع ملزمة للرئيس الجديد» أنّ الظرف الآن قد يساعد على تصعيد الأزمات القائمة في الشرق الأوسط، وتوظيف الصراعات العربية/العربية، وإمكانات ردود الفعل على اغتيال عماد مغنية، من أجل الدفع بذلك كلّه إلى حروب جديدة تعتمد على القصف الصاروخي (الجوي والبحري) ولا تستخدم الجيوش والاجتياحات البرية، وتستغلّ ردود الأفعال عليها، لتعبئة الرأي العام الأميركي خصوصاً والغربي عموماً، ضدّ خطر الإرهاب المحتمل على دول غربية، والذي سيكون مصدره هذه المرّة تحديداً: إيران والقوى المتحالفة معها!!
هذا احتمال وارد الآن من قِبَل إدارة تجاهلت المصالح الوطنية الأميركية بتجاهلها لغالبية الرأي العام الأميركي، ولما أعلنته لجنة «بيكر/هاملتون» من توصيات منذ أكثر من سنة. واكتفت إدارة بوش خلال العام الماضي بخطوات تكتيكية، للتعبير عن تجاوبها الشكلي مع هذه التوصيات، كالمفاوضات المحدودة التي حصلت مع إيران وسوريا، وكالاجتماع الدولي الذي جرى في أنابوليس.
وكانت مراهنة واشنطن وتل أبيب، في العام الماضي، على إمكانية فك ارتباط سوريا مع إيران من خلال جملة أساليب قامت على الترغيب والترهيب معاً، وشملت وعوداً بمفاوضات حول الجولان المحتل وتلويحاً بالعصا العسكرية من خلال الغارة الإسرائيلية في العمق السوري.
كان العام الماضي بمثابة «استراحة محارب» من أجل محاولة تحسين «الأوراق التفاوضية» لإدارة بوش بعد الهزة السياسية التي حدثت في الانتخابات الأميركية «النصفية» في نوفمبر 2006. فواشنطن كانت تدرك أولوية المسألة العراقية لدى الأميركيين وبأنّ المشكلة مع إيران لا تُحلّ بمزيد من القرارات في مجلس الأمن، بل بأحد طريقين: الحرب أو التفاوض.
وقد تجنّبت إدارة بوش في السابق خيار الحرب على إيران بسبب محاذيره العسكرية والسياسية والاقتصادية على أميركا وعلى المنطقة والعالم عموماً، ثم وجدت إدارة بوش نفسها أمام الخيار الآخر (أي التفاوض) دون جاهزية بعد من الطرف الإيراني الذي كان يحاول أيضاً تحسين أوراقه التفاوضية رافضاً القبول بتجميدٍ مؤقت للتخصيب النووي، أو بالتخلي عن حلفاء طهران بالمنطقة. ولم يلمس الطرف الإيراني في العام الماضي أي تحوّل عملي في الموقف الأميركي رغم «رسائل التحية» التي وردت أحياناً من واشنطن.
إنّ فصل الربيع، هو الذي سيبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في إستراتيجية إدارة بوش للأشهر القادمة. فالأسابيع القادمة حبلى باستحقاقات عديدة في الشرق الأوسط ترتبط بأوضاع لبنان وفلسطين والقمّة العربية والانتخابات الإيرانية ومصير الملف النووي الإيراني.
وما قد يمنع على المستوى الإقليمي حدوث الاحتمالات السلبية، هو مزيج غير متوفّر حتى الآن داخل أوطان الأزمات وبين الحكومات الفاعلة بالمنطقة. فحجم الاستقطاب الإقليمي والدولي عطّل ويعطّل الإرادات المحلّية وقرارها المستقل، مع أنه لا يجوز أصلاً المساواة بين أطراف تدافع عن حقّها ووجودها وأوطانها، وأخرى ترضى بأن تكون وسيلة لتحقيق أرباح أكثر لشركات أسلحة ونفط!!