كانت بداية لا بد منها حتى نتعرف على فحوى "الرقابة" الاجتماعية، فعندما تتحدث سلوى النعيمي فإنها تقارب ما في داخلنا دون إثارة "الفتنة"، أو هذا على الأقل ما يمكن أن نقرأه من محاولة "الحذف" أو الشطب الإعلامي والأدبي لكل ما يمس "الحالة الانتقائية" للتراث، حيث لا نستطيع ان نفهم كيف يمكن لوسائل الإعلام ودور النشر أن تقارب كل المسائل الخلافية في التراث، وهي مسائل أقل ما يقال عنها أنها منسية، لكنها في نفس الوقت ترتعد إذا ما حاول أحدهم أو إحداهن النظر من جديد إلى داخل هذا التراث.
والمشكلة لم تكن في ظهور "رواية" تثير مجموعة من التساؤلات، بل أيضا في التشكيل الذي قدمته سلوى النعيمي عبر مزيج "التراث" المغيب والتفكير المعاصر وكأننا نقف على مساحة معرفية جديدة حاول الكثيرون حرماننا منها، ففي برهان العسل أكثر من رواية، وحتى أوسع من نص يحمل أحداثا وأفكارا لأنها محاولة "تصالح" إن صح التعبير مع ثقافتنا وحتى مع لغتنا.
"العربية لغة الجنس عندي"... هذه العبارة ستبقى الرابط الذي يمكن أن يجمع تفاصيل حياتنا مع "اللغة" ككائن يتطور، وهي أيضا محور لأسئلة حملناها إلى الكاتبة ومعها الكثير مما طرحته في روايتها "برهان العسل":
هل تعتبرين ما كتبته في برهان العسل رواية جنسية؟ وما هو أفق الرواية الجنسية ؟
– لا يمكن أن أتحدث بشكل عام عن الكتابة الجنسية لأني أعتبر ما كتبته رواية فقط وموضوعها الجنس بالمجتمع العربي، وحتى لا يتم مقارنة روايتي بتصنيفات مختلفة استطيع أن أقول أن محرضات الكتابة لدى الكتاب المغتربين مختلفة عما هي لدى الكتاب في المجتمع العربي، ففي الغرب يقدمون صورة المجتمع العربي المقموع جنسياً من خلال تراثه ودينه وثقافته، ويقدمون المرأة العربية مقموعة بشكل عام وجنسيا بشكل خاص، صحيح أني أعيش في فرنسا لكني لست مبتورة عن جذوري، حيث تواجهني محرضات أراها في الأدب العربي والسينما، وهي نمطية فأجيالنا لم تعش هذا القمع، وأي نموذج لرواية عربية يكرس الصورة النمطية ففي أي علاقة حب يترك فيها الرجل الفتاة لأسباب تقليدية، وضمن ذلك رواية "علوية صبح" التي يعتبرها البعض جريئة جنسيا في الوقت الذي تعاني كل بطلاتها شرخا على المستوى الجنسي، فلا يوجد علاقة جنسية تنتهي نهاية (طبيعية) بالاستمرارية أو أن يترك الطرفان بعضهما، ودائما البتر يأتي من جهة الرجل وكأنه استعمل المرأة كأداة..أتصور أننا تجاوزنا ذلك بعلاقاتنا منذ فترة طويلة..
أتصور أن تكرار هذه الصورة بالأدب العربي للنساء والرجال يخالف الواقع لأننا كجيل لم نعش بهذه الطريقة، وتأكيد هذه الصورة بالغرب أثارني فحاولت تصحيحها عبر اللغة التي لا أمتلك سواها، وأصبح هاجسا يتملكني منذ سنوات، وحاولت أن أعد دراسة عن الجنس بالثقافة العربية من خلال كتب الجنس العربية القديمة، لكن المسألة بقيت برأسي سنوات كنوع من الرد على الفكرة المشوهة في الشرق والغرب، وعندما قررت كتابة الرواية التي أرفض تسميتها بالرواية الجنسية لم أسمها "رواية" وتركتها دون تسمية، إلا أني حرصت بشكلها على أن تستوحي من الحرية الموجودة في الكتب العربية الجنسية القديمة، وأن لا يحوي مضمونها أحكاما أخلاقية، فالحكم الأخلاقي جاهز سلفاً حتى على النص الأدبي وهو ما تعرض له نصي فيما بعد.
أما ما أفاق الكتابة الجنسية لا أستطيع الإجابة عنه لأني لا أعلم ما هي الكتابة الجنسية وغير الجنسية ’..
ما رأيك بمقولة خدش الحياء التي انتقدك الكثيرون بحجتها ؟
عندما أقرأ كتب الجنس القديمة لا يخدش حيائي.. عندما أكتب عن نفس الموضوع أخدش الحياء!! لماذا يعتبر ما أكتبه خدشا للحياء فيما لا تعتبر الكتب الجنسية التراثية خدشاً للحياء.؟
النص مثير للتفكير والرقابة العربية لم تمنعه لتطرقه للجنس، بل لربطه مفهوم الحرية الجنسية بالتراث ما رأيك بهذا الأمر؟
– أنا عمليا قلت في "برهان العسل" أنه إذا منع هذا النص فإن الرقابة ستكون غبية لأنها ستمنحه الشعبية.. وهذا ما حصل، وأتفق معك أن خطورته ناجمة من ربط الحرية الجنسية بالتراث العربي الإسلامي، لأني لو كتبت عن فتاة سورية تعيش في الغرب وثقافتها غربية لن يعني ذلك أحد، لكني ربطت الفتاة التي تعيش في الغرب بتشبعها بالثقافة العربية الإسلامية التي تضع قواعد حريتها ومرجعيتها، وحريتها الجنسية تستند لمراجع تراثية، فإن القارئ سيراها مرتبطة بثقافته وحريته وبالتالي حريته بجسده، وباعتقادي أن هذا الأمر هو المفصل الأساسي الذي أزعج الرقابة وأدهش الغرب ودفعهم لترجمة النص. فالمتداول إعلامياً صورة مغايرة، ومعظم المطبوعات التي كتبت عن الرواية استعانت بجملة من روايتي’ العربية هي لغة الجنس عندي’ كعنوان، لأن الكتاب بالغرب والفرانكوفونين ’من لبنان والمغرب’ يقولون لا أستطيع التعبير عن نفسي باللغة العربية لأنه ليس فيها "أنوية"، ومنهم مثلاً محمد قاسم الذي قال تعلمت أن أقول أنا باللغة الفرنسية، وكذلك يقولون اللغة العربية لا يمكن أن تقول الجنس أو الحميمي أو العواطف، وأنا التي درست اللغة العربية في جامعة دمشق قسم اللغة العربية أعرف أن هذا الحديث غير صحيح، وبالتالي كانت مهمتي في البداية بحث هذا الموضوع ومن ثم تحولت إلى رواية من كلمة محي الدين بن عربي: "برهان حلاوة العسل هو العسل نفسه.."، فقلت سأكتب ذلك مباشرة كبرهان على حيوية اللغة العربية ورفض تشويهها من الشرق والغرب، وأعطتني رغبة الرد لأنها ثقافتي ولغتي وقضيتي، فما أصرح به هو: أنا مخلوقة لغوية وعندما يأتي من سيحطم لي اللغة التي هي أنا أصبح الأمر أشبه بدفاع عن الوجود..
أما الوجهة الأخرى للكتاب هي الحديث عن الدين كثقافة وليس عن حلال أو حرام، الكتب الجنسية التراثية تضمنت ذلك بالأخبار التي تواردت عن الخليفة وزوجته دون أي حكم أخلاقي، ومن يكتب ذلك شيخ وليس سلوى النعيمي فهو قاضي الأنكحة أو قاضي القضاة، وجلال الدين السيوطي هو صاحب تفسير الجلالين وله 17 كتاب في علم الباه لا يتحدث أحد عنها أو يطبعونها ويخفونها، والتراث الموجود يدعي البعض أنه هامشي، وهذا غير صحيح لأن من كتبوا في هذا الموضوع كانوا في قلب السلطة الدينية والثقافية والسياسية، ومن هنا جاءت فكرتي عبر ربط الحرية الجنسية بمرجعيتها العربية الإسلامية.
أنت دافعت عن صورة الثقافة العربية، لكن هناك من كتب أن أحد طرق الحملة الأمريكية على سوريا هي فضح مجتمعها جنسيا وروايتك هي إحدى هذه الأدوات، كيف تفسرين هذا الموضوع ؟
إن ما يشغل فكري مختلف تماما، ويتلخص بكسر الصورة التي نعرفها عن الدين الإسلامي’، ودور النشر طبعته لأنه أولاً يكسر الصورة النمطية عن المجتمع والمرأة العربيين والإسلام..هذه مكافأتي..
البعض انتقد الرواية انطلاقاً من السؤال عن جنس هذا المنتج الأدبي، فانتُقد فنياً من خلال أسس وقوالب مفترضة للرواية. هل ترين وجهة نظر في ذلك؟
لم يحاربوه فنياً وإنما أخلاقياً، كان قصدهم القول عاهرة تحكي قصص الرجال وهو ملخص كل الهجوم، أما ما يتعلق بالاسم كمنتج أدبي فقد أرسلتها دون وضع شيء عليها للناشر ولا يعنيني التصنيف، لكن الرواية شيء حي يتطور، نحن معتادون على قوالب ونعتبر التجريب فاشل، وأنا أخذت شكل كتب الجنس الفرنسية وقمت ببناء تقسيمات داخلية على أساسها، على ألا يكون هناك شخصيات سردية، بينما الباقي هو الأخبار التي تروى عن فلان وفلان بالكتب العربية القديمة، وأيضاً هناك اللغة وهو شيء رئيس بالنسبة لي، فهناك تطور بالمقارنة مع كتابي الذي أصدرته في 1993 الذي كان قصصا قصيرة بعنوان كتاب الأسرار الذي أعيد طباعته اليوم، وأعتقد أنه سيعتبر فضيحة أيضاً، أرى اليوم أن لغتي تطورت والكتابة الصحفية والموضوع فرض نوع من الطراوة والخفة فجاءت لغة الكتاب متينة محكمة..
بدأت باستحضار الأجساد وليس الأرواح، وأبطالك ليس لهم أسماء بل صفات ولا يمتلكون مواصفات جسدية فهل النتيجة أن الجنس تجربة معرفية تزاوج بين لغة الجسد والفكر (الروح)؟
– ما أردت قوله في الرواية أنه ليس هناك فصل للروح عن الجسد، وهذا الفصل لا وجود له في ثقافتنا، واستحضار الأجساد والأرواح لأن رأسي جزء مني، وأنا متكاملة وليس كما يقولون عقل وقلب، وانما سلوى بأحاسيسها وعقلها وتعبر عن نفسها باللغة ..كان لدي عمود حر وشخصي في أحد الصحف وفيه نظرة وعي للحياة الأنثوية والرسائل تأتيني ولدي ردود فعل ذكورية بشكل طبيعي، رغم أنني لا أملك هذا التقسيم ولكن في نفس الوقت لدي وعي حاد بأنوثتي، والبطلة في الرواية تحب المفكر وهي لا تريد الاعتراف بذلك، وهذا ما يفصح عنه التطور الخفي من البداية، من استحضار الأجساد..
الجنس حاجة تفترض توفير ثقافة مجتمعية له وليس مشروعية من الماضي ..لماذا نحن مضطرون لإيجاد مرجعية له؟
– أنا لا أبحث عن مشروعية ولم أتعامل مع الدين كنص مقدس، ولكن لا أستطيع أن أنكر أن الدين تعامل مع الجنس كحالة طبيعة، واذا كان هناك مشكلة فقد تم التعامل معها وحلها من قرون بشكل بسيط من خلال تمثلهم لثقافتهم..ولا أقصد هنا تدريس الطلبة "رجوع الشيخ إلى صباه"، وانما نوعية العلاقة بالتراث بشكل عام، مثلاً شعر امرؤ القيس يعلمني اللغة والشعر والحياة والجنس بشكل عام، وهو ليس بحث عن مرجعية مقدسة أو غير مقدسة..
نحن نعيش قطيعة مع تراثنا تماماً، وعلاقتنا مع اللغة والتراث والثقافة ليست سوية، فهناك قرون من التدهور والتعامل مع هذه نصوص بنوع من اللامبالاة، وأنا هنا لا أدعو لنوستالجيا لتلك الأزمان، وانما أستند لها لتوضيح أننا بعلاقتنا بتراثنا وحضارتنا وثقافتنا هناك نوع من البتر، ولو غيرنا طريقة نظرنا لاستطعنا تقديم شيء جديد، لدينا معركة حقيقية في مسألة نظرتنا لثقافتنا وتراثنا، وعندما يتهم البعض الحضارة الإسلامية بالقتل أو العنف أدعوهم لقراءة الحضارة الفرنسية والأميركية وغيرها.. ليغيروا من نظرتهم الاجتزائية هذه..
علاقتي بتراثي هي أساسية ولها علاقة بمكونات شخصيتي وليس علي تجاوز هذا الأمر، مثلاً بالرواية الفتاة التي تعيش بالغرب ليس لديها مشكلة مع هويتها، وعادة من يعيش بالغرب يعاني من مشكلة الهوية، وطرحي واضح من قول المفكر للفتاة أنه أحبها لعروبتها ولحريتها، لماذا لديها هذا الإحساس دون حالة الشعارات. التراث جزء من هويتي وأنا لا أبتره أو أرفضه، وهذا لا يعني تقديسه أو التعامل معه بانتقائية، وهويتي ترتكز على ماضي، ولدي القدرة على المحاكمة لأرى معنى الماضي، ومحاولة تشويهه أرفضها ولكن ليس بوصفه تابو.
ألا ترين أن هذا الشق من كتب التراث التي تناولت الجنس تم تهميشها وهل في روايتك فرصة لإبرازها؟
– ما كتبته هو رواية لن تحل كل المشاكل، والحديث عن التراث بالعودة لكتاب الجاحظ عن القيان وكتاب الأغاني والبيان والتبيين، وهي مؤلفات مشهورة وليست كتبا مهمشة، وهناك استمرارية في هذا الموضوع فقصيدة امرؤ القيس كانت أنموذجا لم يقال عنه اليوم أنه اباحي وخطوط حمراء أو غيره، ففي أدبنا العربي القديم عذرية عالية وهو شيء رئيس فيه، و بعد ذلك نجد الأحاديث النبوية فهناك جزء كبير منها يتناول الجنس بحرية، وحتى لو وصف شيخ بالأزهر هذه الأحاديث بالضعيفة، فهذا لا يغير من الأمر شيئا لأنني أتعامل مع الدين كثقافة.. ووجود هذه الأحاديث هو انعكاس للثقافة بشكل أو بأخر..
بنية المجتمع ترد كل شيء لمرجعية هل يفترض ربط الحرية الجنسية بالدين ..ولماذا ؟
لأن الدين ثقافة، وأنا حرة ضمن ثقافتي.. نحن مجتمع عربي إسلامي، في الغرب الجنس في المسيحية خطيئة والجسد قذارة بتعاليم الدين نفسها، وأي لذة جنسية محرمة، نحن لم يكن لدينا ذلك لكنا أصبحنا مثلهم، وهي تأثيرات الغرب خلقت الفصام بين الجسد والروح..ما حصل ان الثقافة العربية انغلقت على نفسها وحصل تدهور سياسي بمجيء الاستعمار، أصبح هناك انغلاق أكثر عبر الأسرة وعلى المرأة حتى وصلنا لحالة الفصام بين الروح والجسد، فالدين الإسلامي يتحدث عن اللذة كـ"عبق الجنة" وهو أمر غير موجود بالغرب الذي يتحدث عنا بشكل مغاير تماما لما نملكه من ثقافة وتراث، فأحد الكتاب الفرنسيين الذين يزورون مصر يقول لا جنس في المجتمع العربي والإسلامي، وهي صورة نسهم بها بطرق مختلفة.
هل حريتك بفرنسا ساعدتك أن تكتبي دون عقدة ذنب أو خوف من التأثيم ..؟
– عندما أقرأ الحرية التي يتعامل بها الكاتب الغربي أتحرر.. ووجودي في أوروبا جعلني خارج الضغط الاجتماعي والثقافي وهو بلا شك امتياز، وهناك من ينكر علينا أن نكتب عن وطننا لأننا موجودون بعيدا عنه، بمعنى أن لا علاقة لي بالوطن والأفضل أن نكتب بالفرنسية.. وأنا ربما لن أعود للوطن لكن هذا مجتمعي وثقافتي، كنت أعيش بدمشق وكنت ألعب اللعبة الاجتماعية نفسها التي تلعبها الفتيات، لم أشعر بضغط عائلي، وعشت حريتي عبر الندية بالعلاقة مع الرجل والحرية لم تعطني إياها حياتي بالغرب، وإنما عمقتها، ما عانيته هو الضغط السياسي عندما سافرت ، بالنسبة لي الحل الفردي كان هو الأساس في بناء نفسي، هنا كان وضع سياسي يمنعني من العمل دون انتماء حزبي، و أنا أرفض أي انتماء انتهازي
هل برأيك أن هناك نص ذكوري ونص أنثوي؟
– أتصور أني أكتب من خلال وعيي للعالم عبر جسدي وبالتالي كتابتي أنثوية، هذا يغضب بعض الكاتبات، لكن ليس لدي حالة التميز والمفاضلة أي أنه عندما نرفض الأنوثة نرى أن الذكر أفضل، وأنا أصر أن كتابتي أنثوية وربما فيها مفاهيم ذكورية لكن طموحي كتابة نص لا يمكن أن تكتبه سوى امرأة... ولكن هذا لا يعني أن الكتابة الأنثوية هي تلك التي تتعلق بالفساتين وغيرها، أو ابتسار مفاهيم العلاقة بين الرجل والمرأة بمفاهيم ذكورية وذلك بأن يختارني ويدللني.