انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية وبدأت معركة الجولة الثانية الحاسمة. الفرنسيون انشغلوا في اختيار رئيسهم للسنوات الخمس القادمة وفق معاييرهم واهتماماتهم وهمومهم. ولم يعيروا الخارج الأهمية اللازمة رغم أن مصيرهم ومصالحهم قد ربطها رئيسهم بالخارج. ورغم تلازم الأزمات الداخلية بالخارج، إلا أن الحوار والنقاش لم يطولا، ظاهرياً، السياسات الخارجية التي أوصلت فرنسا إلى هذه الحالة الاقتصادية والاجتماعية.
لكن الفرنسيين حاسبوا وعاقبوا بشكل ضمني رئيسهم نيكولا ساركوزي بأن حصل على أقل نسبة يحصل عليها رئيس للبلاد بعد ولايته الأولى وأحدثوا صدمة تاريخية، كما كان مجيئه قبل خمس سنوات صدمة تاريخية للفرنسيين. الصدمة التاريخية تمظهرت في أمرين اثنين:
الأول عودة اليسار-المناضل بقيادة جان لوي ميلونشون إلى الواجهة,
ووصل اليمين المتطرف بقيادة السيدة مارين لوبين إلى أعلى نسبة في تاريخه.
صحيح أن الحملة الانتخابية الفرنسية كانت مملة للفرنسيين ولم تحمل جديداً وعميقاً فهي لم تحمل النقاش العميق فكرياً وسياسياً، كما جرت العادة، إلا أن في نتائجها عبراً كثيرة ونتائج خطيرة.
العبر هي في رفض الفرنسيين لقيادة نيكولا ساركوزي وتمردهم عليه وعلى سياسته ونهجه وأدواته البعيدة كل البعد عن الديمقراطية الفرنسية. فكل الذين صوتوا ضده أي أكثر من ٧٥٪ من الفرنسيين صوتوا ضد سياسته الداخلية والخارجية الاستعمارية الجديدة، وخاصة فيما يخص سورية وليبيا وشاطئ العاج، فكلهم اعتبروا أن هذا التدخل وهذه السياسة الفرنسية تشكل عودة استعمارية لفرنسا مهما كانت مبرراتها وأنها وضعت فرنسا في موقع التابع للسياسة الإمبراطورية الأميركية. وهي سياسة لم تجلب على فرنسا إلا مزيداً من التبعية وتزيد من الأزمات الاجتماعية والسياسية الدولية ولن تخدم مستقبل فرنسا اقتصادياً وسياسياً. كما أن هذه السياسة وضعت باريس في مواجهة تيار جديد في العالم يصعب التغلب عليه بل يجب التعامل معه بإيجابية.
ويأخذ المرشحون، الذين حصدوا ٧٥٪ من أصوات الفرنسيين، على ساركوزي أنه تحالف بشكل واضح مع التكفيريين الوهابيين في قطر والسعودية وامتداداتهم في باقي أنحاء العالم العربي من محيطه إلى خليجه تلبية لأمرين: الأول رغبة المحافظين الجدد في إعادة العالم العربي والإسلامي إلى حكم متخلف ودكتاتورية ايديولوجية يمكن احتواؤها عبر عقود ومصالح اقتصادية والأمر الثاني تلبية لرغبة مصالح مالية شخصية له وللمحيطين به الذين جاؤوا به إلى السلطة قبل ٥ سنوات، حيث إن مجموع استثمارات أمراء النفط في فرنسا لا يشكل أي استثمار إستراتيجي يفيد الفرنسيين على الإطلاق فهي استثمارات عقارية، المستفيد الأول والوحيد منها هم السماسرة الذين يرتبطون بساركوزي بعلاقات مصلحية واضحة لا تخفى على أحد. إضافة إلى أن هؤلاء أيضاً لا يخرجون عن تبعيتهم الكاملة للإدارة الأميركية وليسوا مستعدين للتضحية بهذا التحالف الإستراتيجي-المصيري مع الولايات المتحدة وسياساتها ومصالحها في المنطقة والعالم.
وإذا كان المرشح الأوفر حظاً للوصول إلى الرئاسة الفرنسية، الاشتراكي فرانسوا هولند، لم يعبّر بشكل واضح عن سياسته تجاه سورية والمسألة السورية، إلا أن مدرسته الفكرية والإستراتيجية والسياسية تضع له الكثير من الخطوط الحمر تجعل السياسة الفرنسية تجاه سورية وتجاه النظام الدولي الجديد مناقضة تماماً لمسار السياسة الحالية للثنائي ساركوزي-جوبيه. فهو يرى بروسيا والصين حليفين في نظام دولي جديد وليسا خصمين ونقيضين، وعلى هذا المبدأ يبني تحالفاته الدولية. وهو يرى أن التدخل العسكري في أي دولة من الدول ولأي سبب كان يشكل خطراً على الديمقراطية وحقوق الإنسان ويفتح في المجال لتقويض الحقوق الأساسية للأفراد متعظاً مما جرى في الولايات المتحدة بعد ١١ أيلول. وذلك رغم إعلانه تعلقه بأن يرى الديمقراطية وحقوق الإنسان تسود في العالم وفي المحيط الطبيعي لفرنسا. وبالتالي فهو لا يرى أملاً في تحقيق أي ديمقراطية في ظل نظام الفكر والنهج السائد في المملكة العربية السعودية وقطر والمشيخات الخليجية إلا بتغيير جذري في البنية السياسية لهذه الدول وليس بإصلاحات بنيوية.
لذا لا يبدو أي بريق أمل للسياسة الفرنسية الحالية بالاستمرار، بعد سقوط ساركوزي، مهما كان الموقف من الحالة الديمقراطية في الدول المعنية، بل إن آفاقاً جديدة وقواعد جديدة للعلاقات الدولية يمكن أن يطرقها فرانسوا هولاند.
لكن هذا لن يكون كافياً فالخراب كبير وعلى الرئيس الفرنسي الجديد أن يقدم المزيد من حسن النية تجاه الفرنسيين أولاً والعالم ثانياً.