انعقدت القمة السادسة عشرة لحركة عدم الانحياز في طهران 26-30 آب وسط تجاهل شبه تام من قبل معظم وسائل الإعلام في الغرب، التي رأت فيها حدثاً غير ذي أهمية، على الرغم من مشاركة 120 دولة تمثل بشعوبها أغلبية سكان العالم، فضلاً عن الكتلة الأهم من اقتصاده.
فهل يتحتم علينا الاعتقاد بأن كل هؤلاء المشاركين قد حضروا من أجل لاشيء؟
تاريخياً، كان الهدف من هذه الحركة التي أسسها عبد الناصر، ونهرو، وتيتو، وسيهانوك، هو التأكيد على استقلال وسيادة الأمم في مواجهة منطق الأحلاف العسكرية. وقد ظل أعضاؤها طوال سنوات الحرب الباردة، غير منضوين في التحالفات العسكرية، سواء مع الولايات المتحدة، أو مع الاتحاد السوفييتي. وبما أن النفوذ الامبريالي السوفييتي كان يقتصر على البلدان التي حررها الجيش الأحمر أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد انحصرت مخاوفهم في جانب الامبريالية الأمريكية وأتباعها الفرنسيين والبريطانيين، وليس الاتحاد السوفييتي الذي كانوا يعدّونه حليفا دبلوماسيا لهم.
لقد أسس «اللامنحازون» في تلك المرحلة، حركة وليس منظمة، وقد تحولت قمتهم التي تعقد مرة كل ثلاث سنوات، إلى منتدى، على الأغلب كان يخرج بتسويات، وليس بقرارات.
على الصعيد العملي، فقد تعلمت الدول الصغرى التي كانت مكرهة على التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفقاً لأهواء ورغبات القوى العظمى، كيف تتخذ مواقف مشتركة فيما بينها، مكنتها من الوقوف في وجه الضغوطات التي كان يمارسها كلا المعسكرين، غير أن زوال الاتحاد السوفييتي وضع حركة عدم الانحياز في سجل الذكريات.
حاولت كوبا عام 2006 إحياءها من جديد، لكنها فشلت. فقد واجهتها عقبتان: ضعف الإمكانات المالية، من جهة، وسوء نية بعض الدول الأعضاء، التي انضمت إبان مرحلة هيمنة القطب الواحد، أو حتى قبل ذلك، إلى الصف الأمريكي، من جهة أخرى.
لقد أعاد البيان الختامي للقمة التذكير بالمفاهيم الكلاسيكية للسيادة الوطنية، ونزع التسلح، والمساواة بين الأمم (بمعنى رفض قيادة العالم من خلال مجلس الأمن، والآلية الإحصائية التي تشتغل بموجبها المؤسسات المالية الدولية).
الجدير ذكره هنا، أن البنود الجديدة التي تضمنها البيان الختامي، بدت للجميع دعماً غير مسبوق للجمهورية الإسلامية في إيران. فقد تبنى موضوعات عزيزة على قلوب الإيرانيين: الحصول على الطاقة من أجل التنمية الاقتصادية، بما فيها الحق في الحصول على الطاقة النووية المدنية، وإدانة العقوبات الأحادية الجانب التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في انتهاك واضح لشرعة الأمم المتحدة، وإدانة عمليات القتل المستهدف الممارس على نطاق واسع من قبل تل أبيب وواشنطن للقضاء على خصومهم في شتى أنحاء العالم.
ولكي نقيس جيداً أبعاد النجاح الذي حققته إيران، يكفي أن نتذكر حجم الضغوط التي مارستها وزيرة الخارجية الأمريكية على أغلبية الأعضاء الذين تمت دعوتهم للقمة، والطلب إليهم عدم إرسال وفود رفيعة المستوى إلى طهران، واقتصار مشاركاتهم على مستوى السفراء الموجودين أصلاً في العاصمة الإيرانية. لكن النتائج أتت معاكسةً لرغبات واشنطن، فقد أسقطت القمة سياسة «الاحتواء» التي فرضتها واشنطن على إيران منذ هروب الشاه رضا بهلوي، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، حين حضر إلى طهران نحو ثلاثين رئيس دولة، وأكثر من ثمانين وزير خارجية، في تحد واضح للولايات المتحدة.
كان حضور الرئيس المصري الجديد محمد مرسي الأكثر لفتا للانتباه، نظراً لمقاطعة مصر للجمهورية الإسلامية منذ قيامها، وعودتها لتسترد دورها كعضو مؤسس للحركة، وفاعل فيها.
لقد وضعت إيران في مقدمة أولوياتها فك ارتباط القاهرة بالرياض، لهذا سمحت لنفسها بتجاوز خلافها مع جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة.
صحيح أن الرئيس المصري قد ألقى خطاباً هجومياً شديد اللهجة ضد سورية، لكنه هو من عمل على استبعاد الإشارة إلى سورية في نص البيان الختامي، الأمر الذي قلب قواعد اللعبة تماماً: فقد سقطت سياسة «احتواء» إيران نهائياً، وبرز في مقابلها بدء عملية تهميش دبلوماسية، للدور السعودي في المنطقة، بعد تبوؤ إيران مقعد الحكم في أي نزاع قد ينشأ بين البلدان في المنطقة.
قم (مدينة الفقهاء في إيران) أصبحت الآن تكافئ جامعة الأزهر القاهرية بمكانتها، رغماً عن أنف الدعاة السعوديين الذين يملؤون شاشات التلفزة.
وعلى الرغم من خضوع حركات الإخوان المسلمين، حتى هذا التاريخ للقوى الأنغلوسكسونية، وتبعيتهم المالية لدول مجلس التعاون الخليجي، فإن هذه الحركات بدأت تميل إلى الاعتماد على نفسها من خلال التقرب من طهران، في الوقت الذي وصل فيه العديد من هذه الحركات إلى السلطة في شمال أفريقيا.
حقاً، إن التحالف الذي بدأ يتشكل الآن، مخالف للطبيعة، لكنه سوف ينعكس بفائدة جمة على شعوب المنطقة، نظراً لما سوف يسهم به في التخفيف من حدة الاحتقانات المذهبية التي غذتها، ورعتها الإمارات الوهابية في المنطقة.
هذا الانقلاب في الدبلوماسية، سوف يمنح حركة عدم الانحياز سلطة حقيقية، فقد أضحى تحولها من حركة إلى منظمة رهاناً كبيراً.
لقد شكلت الجمهورية الإسلامية سكرتاريا مؤقتة للسنوات الثلاث القادمة من رئاستها للقمة، وهي كافية لإنضاج حلول تحولها إلى منظمة، تقود هذه السكرتاريا (ترويكا) مؤلفة من إيران، ومصر، وفنزويلا التي أثبتت جدارتها كلاعب لايشق له غبار على صعيد العلاقات الدولية.
صحيح أن هذه الدول الثلاث (الترويكا) تمثل ثلاث قارات جغرافياً (آسيا، أفريقيا، وأمريكا اللاتينية)، غير أنها تجسد ثلاثة خيارات مجتمعية أيضاً: (ثورة روحية، تقبل الرأسمالية الليبرالية، واشتراكية القرن الحادي والعشرين).
لقد كانت كلمات افتتاح القمة فرصة لآية الله علي خامنئي المرشد العام للثورة كي يوجه نصيحة علنية للولايات المتحدة، حين خاطبها مباشرة بالقول: تحرروا من النفوذ الإسرائيلي، ودافعوا عن مصالحكم الحقيقية، وأوقفوا فقدان الثقة بكم عبر امتناعكم عن دعم الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون.
وكصدى مباشر لكلمته، رد عليه الجنرال مارتين ديمبسي، رئيس هيئة أركان القوات الأمريكية، بعد بضع ساعات، من خلال مؤتمر صحفي عقده في لندن، استهله بتوجيه انتقادات لاذعة للنيات الإسرائيلية المعلنة، واصفاً إياها بالعبثية، الرامية إلى ضرب المنشآت النووية الإيرانية، معلناً أنه في حال إقدام تل أبيب على تنفيذ تهديداتها، فإنه يتمنى على واشنطن ألا تتورط في هذه الجريمة.
إنها المرة الأولى، منذ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، التي نسمع فيها مسؤولاً غربياً رفيع المستوى، يلوح برفض الولايات المتحدة المشاركة في أي مغامرة قد يقوم بها الكيان الصهيوني.
لعل في إعلانها عن تحول استراتيجي في سياساتها بهذه الطريقة، تكون واشنطن أقرت بأنها أخذت علماً بالمعطيات الجديدة التي نشأت، وأنها تعترف من الآن فصاعداً بعودة إيران إلى الساحة الدولية، ومعها حركة عدم الانحياز.