من المهم ان تعلن السلطات السورية ايقاف مسلحين من الاسلاميين المتطرفين يحاولون دخول الاراضي اللبنانية انطلاقاً من اراضيها, وحبذا لو ان البيان عن الحادث لم يكتف بالاشارة الى مقتل احد المسلحين واعتقال نحو ثلاثين آخرين وسقوط قتيلين في صفوف قوات الامن السورية,,, ذلك ان المطلوب مزيد من الايضاحات بدل الكلام العام الذي يستهدف البعث برسالة فحواها ان سورية تشارك في الحرب على الارهاب.
انها المرة الاولى التي تتحدث دمشق عن حادث من هذا النوع مع لبنان, والامل في ان يكون ذلك نقطة تحول على صعيد العقلية المعتمدة سوريًا خصوصا بالنسبة الى التعامل مع لبنان ككل, وبكلام اوضح، يفترض في السلطات السورية ان تدرك ان لبنان المكان المناسب لاعادة تأهيل نفسها دوليا خصوصا لدى الادارة الاميركية، هذا اذا كان في الامكان التخلي عن اوهام كثيرة عائدة الى ان لسورية دوراً تتصوره لنفسها على الصعيد الاقليمي من منطلق انها الدولة الاهم في المنطقة, قد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون، الا ان الصحيح يتمثل في ان المعطيات الاقليمية كلها تغيرت وان العالم تغير، كذلك موازين القوى فيه وان ما كان يصلح في السبعينات والثمانينات وحتى بداية التسعينات لم يعد صالحاً في بداية القرن الواحد والعشرين.
هناك ثلاثة ملفات مهمة واساسية على النظام السوري التعاطي معها بطريقة مختلفة, اول هذه الملفات العراق الذي تحتله الولايات المتحدة, ان العراق يمثل بكل بساطة مأزقاً اميركياً لم تعد ادارة بوش الابن تعرف كيف تخرج منه, وفي كل يوم يمر يتبين كم ان هذا المأزق عميق وكم ان السياسة الاميركية كانت فاشلة في العراق, انها سياسة قائمة على التخلص من نظام صدام حسين البعثي - العائلي من دون ان تلحظ خطة سياسية وعسكرية لمرحلة ما بعد صدام تأخذ في الاعتبار ما هو العراق وكيف يحكم العراق واهمية السنة العرب في العراق, لكن المأزق الاميركي لا يعني في اي شكل ان سورية يمكن ان تكون المستفيدة من تدهور الوضع في البلد الجار, على العكس من ذلك، ان المأزق يجعل الادارة الاميركية اكثر تشددا وتصلباً حيال كل ما له علاقة بالعراق, وكل ما يمكن قوله الآن ان سورية امام خيارين لا ثالث لهما في العراق, اما تكون مع اميركا او تكون ضدها, ذلك ان ادارة بوش الابن تطبق حالياً بالنسبة الى العراق المبدأ الذي باشرت تطبيقه بعد احداث 11 سبتمبر - ايلول 2001 وهو يختصر بالآتي: من ليس معنا هو ضدنا, كل ما عدا ذلك تفاصيل لا معنى لها, واذا كانت سورية تريد بالفعل اعادة مد الجسور مع الولايات المتحدة، ليس امامها سوى العودة الى الخيار الذي اعتمدته في العام 1990 عندما اقدم صدام حسين على مغامرته المجنونة, وقتذاك، اتخذ الرئيس الراحل حافظ الاسد قراراً شجاعاً بالمشاركة في تحرير الكويت من الاحتلال العراقي, وقاتل الجيش السوري الى جانب الجيش الاميركي، واستطاعت سورية تجديد دورها الاقليمي كما حصلت على ضوء اخضر سمح لها بوضع يدها على لبنان وتنفيذ ما يعجبها من اتفاق الطائف وعدم ايلاء اي اهتمام لما لا يعجبها فيه بما في ذلك الانسحاب المبرمج من البلد عسكرياً.
استطاع حافظ الاسد الذي كان يعرف جيداً التوازنات الاقليمية والدولية التكيف مع المعطيات الجديدة, وذهب بعيداً في دعم الولايات المتحدة في تحرير الكويت وانضم الى جبهة الرابحين بدل ان يكون في جبهة المغضوب عليهم, ولم يكن الثمن الذي قبضه في لبنان فقط، بل تجاوز ذلك الى كسب وقت ثمين يسمح لسورية باعادة ترتيب اوراقها اقليمياً, وكانت البداية الانضمام الى مؤتمر مدريد ثم الدخول في مفاوضات مع اسرائيل، استغلتها الدولة اليهودية بدورها للضغط على الجانب الفلسطيني وابتزازه في احيان كثيرة,,, وكانت النتيجة ان سورية بقيت لاعباً اقليمياً مستمدة قوتها من قدرة دمشق على اتخاذ خطوات جريئة فاجأت الكثيرين، خطوات تأخذ في الاعتبار التوازنات الدولية والاقليمية اولاً واخيراً.
تغيرت هذه التوازنات كلياً في ايامنا هذه بدليل ان الملف الثاني الذي يهم سورية واسمه لبنان لم يعد ورقة، اللهم الا اذا اختارت دمشق القبول بالواقع, وهذا يعني قبولها اولاً انها خرجت فعلاً من لبنان وان عليها المساعدة في تنفيذ القرار 1559 الذي يدعو الى نزع سلاح المخيمات الفلسطينية وفي مرحلة لاحقة سلاح «حزب الله», ان العالم ليس مستعجلاً على نزع سلاح «حزب الله»، بل ان ذلك يمكن ان يحصل في مرحلة لاحقة, ولكن يفترض في سورية ان تدرك بالنسبة الى لبنان امرين في غاية الاهمية, الاول انها لا تستطيع القول انها نفذت الجانب المتعلق بها من القرار 1559 وذلك بعدما تركت كمية لا بأس بها من الالغام في لبنان، والآخر ان لا صفقة مع الادارة الاميركية على حساب لبنان في حال استطاعت التوصل الى صيغة تفاهم مع الادارة في شأن العراق, هناك بكل بساطة سلسلة من الشروط، لا بد من تنفيذها, وهذه الشروط عائدة اولاً واخيراً الى غياب اي هامش للمناورة لدى سورية في لبنان او العراق حتى لو كان هناك في هذه الايام من يعتقد ان التغيير الذي حصل في ايران يصب لمصلحة سورية.
اما بالنسبة الى الملف الثالث الذي يهم النظام السوري وهو الملف الفلسطيني، فان الشروط نفسها تنطبق عليه وفحواها ان لا بد من فك ارتباط بين دمشق والمنظمات الفلسطينية المتطرفة مثلما انه سيتوجب عليها في مرحلة لاحقة فك ارتباطها مع «حزب الله» ومنطق اللامنطق الذي يتسلح به في لبنان, انه منطق لا يصب في نهاية المطاف سوى لمصلحة الاحتفاظ بما يسمى «جزرا امنية» على الاراضي اللبنانية بما يصب في المدى الطويل في خدمة اسرائيل شئنا أم ابينا، ذلك ان لبنان قادر على ان يمثل نموذج الدولة الديموقراطية المستقرة في المنطقة بدل ان يكون دولة يسرح فيها المسلحون ويمرحون خدمة لاهداف لا علاقة لها سوى بأن يكون البلد الصغير مجرد «ساحة» للتجاذبات الاقليمية, وثبت بالملموس من تجارب السنوات الماضية ان لبنان «الساحة» لا يمكن الا ان يكون في خدمة اسرائيل وذلك بغض النظر عن شعارات المقاومة والمقاومين الذين يبيعون المواطن اللبناني الاوهام.
مشكلة النظام السوري مع الملفات الثلاثة انها مترابطة, واذا كان يريد العمل على الانتهاء منها، ثمة حاجة الى معالجتها ككل, والسؤال هل يستطيع خوض هذا التحدي؟ الجواب انه يستطيع ذلك اذا لعب اوراقه جيداً من جهة واذا استطاع ان يثبت بالملموس من جهة اخرى ان لا علاقة له باغتيال رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما ثم سمير قصير وجورج حاوي, انه تحد كبير!!
ان اعتقال المتطرفين على الحدود اللبنانية ليس سوى بداية، لكنه بداية مشجعة في حال تبين ان هناك رغبة حقيقية في نقلة نوعية تخرج سورية من حال العزلة التي تعاني منها حالياً على غير صعيد وتجعلها طرفاً مقبولاً من الجانب الاميركي في الحرب التي يخوضها هذا الجانب مع الارهاب.