ما تمخض عنه المؤتمر القطري الأخير لحزب البعث لا يرقى في نتائجه على الساحة السورية إلى أكثر مما يصدر عن شركة مهددة بالإفلاس، تخشى أن يقصيها منافسوها عن السوق، فهي تستعمل كل الأسلحة ،بما فيها المحرمة، مع هؤلاء المنافسين، لتبقي خيلها العرجاء تسابق نفسها في ميدان السباق.
ولو كان حزب البعث يحظى بدعم شعبي حقيقي ،كما يزعم، حيث أكد في أكثر من مناسبة أن عدد أعضائه يربو على المليونين من الأعضاء، – ذكر ذلك إبراهيم حميدي مراسل الحياة في دمشق- إذن لنزل إلى الساحة ينافس من خلال صناديق الاقتراع، باقي الأحزاب السورية من موقع قوة بما لديه من أعضاء في البعث، بعد أن وافقت تلك الأحزاب المعارضة على إجراء الانتخابات في سورية وحزب البعث في السلطة، ولكن بشرط أن تتم تحت رقابة دولية. فهذا العدد،إن صح، يفوق عدد أعضاء كل الأحزاب السورية المسموحة والمحظورة على السواء مجتمعة ،بمن فيها جماعة الأخوان المسلمون المهدور دم أعضائها بنص القانون 49 لعام 1980 ، «رسميا ليس هناك أحزاب مسموحة في سورية غير حزب البعث، حتى أن أحزاب الجبهة التقدمية المشاركة في الحكم غير مرخصة لها رسميا» .
واقع النظام السوري حاليا ،بعد أربعة عقود من الانفراد في الحكم، يمكن أن نختصره بأنه نظام وصل إلى مرحلة التآكل وتفكك الأوصال في حكوماته المتعاقبة، وأفضت ممارساته الخاطئة بسورية –الدولة- إلى حافة الانهيار. لماذا وكيف؟.
فأول وأكبر خطيئة -ولا أقول خطأ لأن هذا قد يتسبب عن جهل، وتلك كانت عن عمد وسابق إصرار- كان "تسييس" الجيش السوري، وحرفه عن مهمته التي من أجلها أنشئ هذا الجيش، وهي الدفاع عن الوطن. فاعتباراً من آذار 1963 أصبح الجيش السوري يخرّج ضباطاً ساسة، لا قادة محاربين.
وكان من نتائج هذه الخطيئة أن حزب البعث استلم سورية ضمن حدودهاالسياسية التي رسمتها معاهدة “سايكس بيكو”، التي قسّمت أقاليم السلطنة العثمانية إلى دويلات. ورغم شعاراته بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، فقد اقتُطِعت هضبةُ الجولان من الأرض السورية، وضمت إلى فلسطين ،المحتلة طبعا، في هزيمة،ما عرف الجيش السوري مثيلا لها في تاريخه الحديث، حتى ولا يوم فرضت الهدنة عليه عام 1949 ، فقد كان حينها ما يزال يقاتل.
ولم تعرف الجبهة السورية مع إسرائيل الهدوء في عهد كل الحكومات الوطنية بعد الاستقلال. فقد كانت المعارك سجالا بين الطرفين بين كر وفر. وقد كانت معارك "التوافيق" و "مسعدة" ،في أوائل خمسينيات القرن الماضي، مثالا على صمود الجنود السوريين، رغم ضعف تسليح الجيش السوري، في موازاة تسليح العدو.أما في عهد البعث، وخصوصا بعد عام 1974 بعد توقيع معاهدة فك الارتباط برعاية “كيسنجر” وزير خارجية أمريكا، فقد نعمت الجبهة السورية بهدوء يثير الإعجاب جانبي الحدود.
والعجيب أن يبرر النظام السوري وجوده في لبنان للدفاع عنه، وما كان هذا النظام ليستطيع أن يردع الطيران الإسرائيلي الذي كان يقوم باستعراض أجنحة طائراته فوق الأجواء السورية. أما طائراتنا فكانت أجنحتها تلمع تحت ضوء الشمس، وقد أكل الصدأ معدنها، وهي على الأرض لا تجرؤ على الطيران.بل لقد سقط منها ،في معركة جوية واحدة فوق لبنان، أكثر من ستين طائرة في عام 1982 ،حيث تخلى عنها طياروها –كما شهد بذلك شاهد عدل- لأنهم ما كانوا يريدون خسارة أرواحهم في معركة سياسية لا تخدم إلا قيادة سياسية مغامرة في دمشق، ما كان يهمها إلا أن ترسخ سلطتها، حتى ولو كان من بعدها الطوفان.
وثاني خطيئات حزب البعث –وما أكثرها- فقد كان إلغاء دور الشعب السوري كله من خلال دستور 1973 وخصوصا المادة الثامنة منه، التي اعتبرت مجموع الشعب السوري قاصرا إلا حزب البعث. أما قانون الطوارئ فقد زرع الرعب في قلوب المواطنين خوفا من أجهزة الأمن المتعددة التي ما كان لها أن تمتد لها يد إلى أي مواطن، لو كان الذي يحكم هو القانون الطبيعي، لا القوانين الاستثنائية.
وثالث خطيئات حزب البعث هو اختصار سورية كلها في هيئة مزرعة يستثمرها قياديو حزب البعث وأبناؤهم، يرث الأبناء آباءهم فيها كابرا عن كابر. فكان هناك قانون “الإفساد” الزراعي الذي نزع الأرض من ملاّكها وملّكها للبعثيين الجدد. كما تم تأميم المصانع،التي كانت تنافس في إنتاجها مثيلاتها الأوروبية،وأسندت إدارتها إلى من تركها أثرا بعد عين. ولم يسلم باطن الأرض من أيدي المستثمرين الجدد، يستخرجون منها البترول، لا ليوضع في منفعة المواطن، بل ليسيل أرصدة في حسابات محدد ة في بنوك سويسرا. أما هواء سورية فقد احتكره مستثمر جديد من خلال شركات الموبايل، كان نصيب المواطن فيها دفع قيمة الفواتير، لتتحول إلى أرصدة دولارية تصب في حسابات المستثمر الجديد في البنوك إياها.
قد تكون الخطيئة الأخيرة هي الأكثر وضوحا عند المواطن السوري، لأنها تمس معاشه الذي أصبح من بقايا فتات ما يتناثر من موائد رجالات حزب البعث . ولكن هذه الخطيئة، على عظم خطرها، تبقى الأقل ضررا بين سابقتيها. فقد عصفت الخطيئة الأولى بالكيان الوطني السوري وتركته ريشة في مهب أطماع أمريكا وإسرائيل. وعملت الخطيئة الثانية على تحطيم شخصية المواطن السوري بعد أن جعلته مواطنا من الدرجة الثانية « second class»، وقصرت دوره على دفع الضرائب لتصب في جيوب البعثيين الجدد. ومنع المواطن من أداء دوره السياسي، بعد أن نصّب حزب البعث نفسه قيّما على كل شيء في سورية من ألفها إلى يائها، وترك المواطنين كالأيتام على مأدبة اللئام.
ومهما كانت توصيات المؤتمر القطري الأخير أو القرارات التي ستصدر بعده، فإن العبرة بالممارسة التي ستتم على أرض الواقع. ومهما كانت الشعارات التي اعتمدها براقة لامعة، فإن سياساته دائما شيء آخر. وهي على كل حال إعادة لإنتاج سياسات الحزب التي اتبعها منذ اليوم الأول لتسلطه على حكم سورية: انفراد في الحكم، تسلط على مقدرات الدولة، استبعاد لكل ما هو غير بعثي عن دوائر الحكم حتى من مرتبة مدير مدرسة ابتدائية، تَدَخّل من الأجهزة الأمنية في صنع القرار بما فيها تعيين الوزراء والمحافظين ومدراء الدوائر. بل يمكن أن نزعم أن حزب البعث كان وما يزال يختصر سورية كلها في مزرعة يستثمرها سدنة نظامه، والمواطن فيها مزارع في خدمة هذه المزرعة.
ومع أن “منتدى الأتاسي” لم يكن أكثر من “ديوانية” يجري فيها الحوار تحت سقف منخفض من الحرية ، فإن إغلاقه ،ولمّا يجفّ الحبر الذي كتبت به توصيات المؤتمر القطري العاشر، ليؤكد إصرار هذا النظام على سياساته القديمة التي ترفض سماع أي صوت معارض.
لا يهمنا كمواطنين أن يشطب من معادلة البعث زيد ويؤتى بعمر. فالذين شطبوا لو كان لهم من الأمر شيء لما شطبوا. وحقيقة الأمر أن الذي ألغى أولئك وجاء بهؤلاء، كان وما يزال هو اللاعب الحقيقي على الساحة من قبل ومن بعد.
بل إن قراءة واعية في الوجوه، التي أصبحت على رأس أجهزة الأمن بعد المؤتمر، تنبئ عن توليفة في هذه الأجهزة تعيد إلى الأذهان صورة تلك التوليفة التي كانت تحيط بالرئيس حافظ الأسد في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، وتنذر بالعودة إلى جو تلك الحقبة المكفهر الذي ما زالت تعاني سورية من ذيوله حتى الآن.
في ظل إصرار حزب البعث على سياساته التي تؤكد أنه قد يأخذ معه سورية إلى حافة الهاوية ، يبقى السؤال: إلى متى يظل الشعب السوري ساكتا، وكأن ما يحصل ليس في سورية، بل في الطرف الآخر من المعمورة؟...