يوماً بعد يوم تزداد صورة الدولة في لبنان شحوباً، وتتهاوى مؤسساتها الجامعة تحت ضغط صراع مفتوح لا تنفع واجهته الطائفية، على احتدامها، في طمس حقيقته السياسية التي تتناول جوهر وظيفة الحكم في مجتمع منقسم على ذاته، خصوصاً مع تعاظم التدخل الدولي الذي لم يعد يهتم بنفي اتهامه بممارسة دور الوصي المزدوج (الأميركي الفرنسي)، بل هو بات يبرر وصايته بعجز اللبنانيين، وبالتحديد قياداتهم، عن التوافق على الحلول المطلوبة لمباشرة الخروج من النفق وتلمس الطريق إلى «الحرية والاستقلال والوحدة الوطنية» بعد طرد الوجود السوري شر طردة...
وبرغم أن التحرشات السورية الأخيرة، على «الحدود البرية» وفي «المياه الإقليمية» إنما تؤذي سوريا ولا تفيد في تجميل صورتها اللبنانية، بعد كل ما نالها من تشوّه، فإنها قد أشرت إلى خطورة الغياب المفجع للدولة في لبنان، وبالتالي غياب المرجعية القادرة والمؤهلة على مخاطبة سوريا تمهيداً لحسم مواضيع الخلاف، وما أكثرها وما أعقدها!
لقد كشفت هذه التطورات المؤذية للبلدين، أن ليس ثمة في لبنان مَن يجرؤ على فتح باب الحوار مع سوريا، بعد كل الذي كان بين اللبنانيين وبينها، والذي بلغ حدود التحريض على «الحرب الدولية» ضدها، وبالمقابل إيذاء اللبنانيين في أرزاقهم...
كما كشفت أن القيادة السورية ما زالت تعيش حالة من الغضب لكرامتها وخيبة الأمل والمرارة من نقص في «الوفاء» عند اللبنانيين لدورها معهم على امتداد ثلاثين عاماً حافلة بالحروب والمؤامرات والفتن والمحاولات المتعثرة لإعادة بناء السلطة في لبنان، على قاعدة من معاييرها ومفاهيمها الخاصة... التي تبدت مقبولة من جمهور السياسيين الذين تقبّلوها أو أنها أنجبتهم فدانوا لها بالولاء...
ولعل في دمشق مَن يرى في الانتخابات بكل ما حفلت به من حملات عداء مكشوف، ثم في ما رافق ويرافق الشروط والشروط المضادة حول تشكيل الحكومة مناخاً عدائياً أو إنقاصاً من أهمية العلاقة مع سوريا، خصوصاً وقد باتت هذه العلاقة في لبنان موضع شبهة في وطنية مَن يدّعيها.
يمكن لرئيس الحكومة المستقيلة أن يقول إنه قد جرّب، ولكنه خارج الحكم، الآن، وبالتالي خارج دائرة القرار، فإذا أقدم فهو قد يتهم إما بأنه يتبرع بما هو غير مرغوب وإما بأنه غير ذي صفة، وكلامه لا يلزم أحداً.
يضيف نجيب ميقاتي أنه قد حاول، وبصفة شخصية، فاتصل بأرفع المراجع في سوريا، ثم شكّل لجنة من بعض وزراء حكومته لمواكبة تحركات الصناعيين والمزارعين، لكنه لا يملك من الصلاحيات ما يجعله مؤهلاً للمفاوضة مع سوريا.
ويمكن للرئيس المكلف أن يقول إنه قد حاول، حتى من قبل أن يشكل حكومته، لكن المتلقي اتصاله قد اعتبره «مجاملة» وتعبيراً عن حسن نية أكثر مما هو إعلان عن سياسة لحكومة يمنع قيامها بين موانع عديدة الحسم في مستقبل العلاقة مع سوريا وطبيعتها.
ولقد اتصل فؤاد السنيورة، فعلاً، بأمين عام الجامعة العربية، ليوسطه... وجاء عمرو موسى فعلاً إلى دمشق، عبر الرياض، لكن جهده توقف في انتظار تشكيل الحكومة التي لا يبدو أن جهود تشكيلها ستصل إلى خاتمتها السعيدة في موعد قريب...
ويؤكد السنيورة أنه سيقصد دمشق، فور نيل حكومته العتيدة الثقة، وأنه يعتبر تصحيح العلاقة مع سوريا واجباً قومياً، وهو قومي النشأة واليقين «لكن المناخ الذي يسود الآن نتيجة التصرفات على الحدود، لا يشجع، بل يجعلنا نخاف على سوريا من أنها تتوجه نحو فخ دولي منصوب لها»...
لا حكومة، إذن، في لبنان حتى إشعار آخر...
فأزمة الثقة بين رئيس الجمهورية وبين الرئيس المكلف لم ينفع الإجماع على تكليفه في التخفيف منها، خصوصاً أن الأيام التي تلت أثبتت أنه «إجماع ملغوم» سرعان ما أسقطته محاولات التشكيل...
ومن قبل هذه الأزمة كانت رئاسة الجمهورية قد فقدت دورها كمرجعية عليا جامعة، وانهمكت في الصراع المفتوح تحت عنوان «تحقيق التوازن»، بما جعلها موضع اتهام بأنها مانعة للتوازن المطلوب، خصوصاً أن ذريعتها العلنية كانت «الحرص على حقوق الطوائف، وبالتحديد الموارنة وفعلياً الحليف الجديد العماد ميشال عون» في حكومة الوحدة الوطنية العتيدة...
أما المجلس النيابي فقد تلقى الصدمة الأولى التي هزت من معنوياته
وقدرته على الحسم مع تجربته الأولى حين أجمع أعضاؤه (126 من أصل 128) على تسمية المرشح لرئاسة الحكومة، ثم ضاع هذا الإجماع في حومة الصراع على حصص الطوائف تحت عنوان «الثلث المعطل للقرار»، في بلد معطل بكامله عن أي قرار...
كذلك فقد تبدت آثار التشوهات التي أصابت هذا المجلس عبر انتخابات تمت بالأمر “الأجنبي” وتحت وصاية أجنبية مباشرة ومعلنة، ووفق قانون مغلوط، وفي ظروف من الهياج الطائفي المستدر لمناخات الحرب الأهلية، تمثلت في انقسامه إلى مجموعات طائفية ومذهبية لا تكاد تلتقي إلا على تأكيد حضور كل منها في وجه “الآخرين”...
وليس مما يعزز الدور التاريخي لهذا المجلس المنتخب ديموقراطياً في ظل الحرية والوحدة الوطنية بعد الخروج السوري “بالإكراه” أن تكون مهمته الأولى تقديم العفو عن قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع، على كل ما عداه من قضايا ومسائل... وإن ترافق هذا الإجماع الملفت حملة منظمة تطالب بعفو خاص يشمل جميع المتعاملين رسمياً وبالاعتراف المباشر كما وعبر المدافع والدبابات الإسرائيلية مع “الكيان الصهيوني” الذي كان عدواً، في الماضي، وما زال حتى الساعة “العدو” بالمعنى الدستوري والقانوني فضلاً عن الوطني.
هل تبرر أخطاء الوصاية السورية مثل هذا التسامح مع مَن قاتلوا شعبهم وجيشهم وجهروا بتأييد العدو ضده، ثم طلبوا “الجنسية” منه، فضلاً عن طلب حق اللجوء إليه... هرباً من أهلهم الذين جعلوهم ضحاياهم؟!
ونعود إلى الحكومة باعتبارها مسرح الصراع الآن بين السياسات، حتى وإن اتخذت من الطوائف وحقوقها أقنعة لها...
لقد تبدى من خلال لعبة الحقائب في الحكومة وكأن لكل طائفة سياستها الخارجية الخاصة، لا سيما في ما يتصل بالقرار الدولي 1559 ومندرجاته، كما أن لها مفهومها الخاص للعدالة، وبرنامجها الخاص للإصلاح السياسي، وخطتها الخاصة للتربية “الوطنية”!، ومشروعها الخاص للاقتصاد وصولاً إلى البيئة والتنمية الإدارية والشؤون الاجتماعية وإتاحة فرص العمل أمام اللاجئين الفلسطينيين إلخ...
وكان بديهياً وقد تكشفت الأقنعة أن تتعقد عملية تشكيل الحكومة، وأن يدور بها الرئيس المكلف بلا تعب أو كلل على المرجعيات الطائفية والمذهبية جميعاً، كأنها مصدر القرار بالتبرئة أو الإدانة أو الشهادة له بأنه حاول ولم يقصّر، لكن المشكلة عند غيره.
وهذا الغير متعدد، متحوّل، متبدل، بحسب الحقائب كماً ونوعاً.
ويبدو صعباً على “فيدراليات الطوائف” أن تتلاقى في حكومة ائتلافية طابعها العام “وطني” برغم كل خلافاتها، وهي كثيرة، وإن ظلت العلاقة مع سوريا، أحد محاورها مع التنبيه إلى أن الوجه الآخر هو القرار الدولي... فالمطالب، وبإلحاح، بأن يكون هذا القرار جزءاً مكوناً من برنامج الحكومة الجديدة لا يمكنه الادعاء أنه إنما يعبّر عن رفضه للوصاية السورية، بل سينظر إليه وكأنه يعبّر عن رفضه شريكه الوطني الذي يرى في هذا القرار ما يهدد سلامة لبنان ووحدة مواطنيه، بداية، وقبل التفكير بآثاره على هوية لبنان ومن ثم على انتمائه لمحيطه الطبيعي... مع كل الاحترام للشرعية الدولية!
لكأنما يتجاوز الأمر الحكومة الجديدة... فإذا كان لكل فيدرالية “طائفية” مشروع دولتها، مع البرنامج السياسي لهذه الدولة، فلماذا الحكومة الجديدة التي يستحيل أن تتسع لكل هذه الدول المختصمة؟
الأطرف هو الحديث عن “الثلث المعطل”؟
مَن يملك الثلث المعطل في ديموقراطية الطوائف؟!
ففي لحظة تبدى وكأن كل طائفة تملك مثل هذا “الحق” ولو كان لها وزيران أو ثلاثة أو خمسة، أو بغض النظر عن العدد، إجمالاً...
وتوحي مواقف ميشال عون، التي تذرع بها رئيس الجمهورية للدعوة إلى إعادة النظر في تشكيل الحكومة، وكأن العماد يكفي وحده لتكوين هذا الثلث المعطل. هو رافض أو مرفوض يمثل ما لا تستطيع ادعاء تمثيله “القوات اللبنانية” ومعها بقايا “قرنة شهوان” وسائر الأخوة الأعداء.
إذن فالمطلوب تعطيل سياسة، وليس تعطيل هذا القرار أو ذاك، كحسم مشكلة الكهرباء المزمنة، أو تطهير الإدارة أو القضاء على الفساد إلخ...
وهذا يعيدنا إلى المربع الأول: أي أن الطائفية غطاء لتوجه سياسي مغاير، لا يمكن أن ينعقد عليه الإجماع، وبالتالي فلا بد من حق <<الفيتو>> لمنع الحكم بالأكثرية... ديموقراطياً!
والثلث المعطل في داخل الحكومة... مشكلة!
أما خارج الحكومة فهو تمهيد أو تحضير لحرب أهلية تبدأ على شكل انقسام سياسي حول المسكوت عنه لضرورات تكتيكية، ثم ينزل الخلاف إلى الشارع ويتعذر إيجاد مَن يمنع هذا التدهور المدمر...
لا يمكن إرجاء المشكلة أكثر مما أرجئت، وإلا تحولت إلى أزمة، والأزمة إلى مشروع حرب... دولية، عنوانها “العلاقات الأخوية” اللبنانية السورية.
وحكومة فيدرالية الطوائف ليست هي الحل... بل قد تكون هي المدخل إلى تعقيد المشكلة وتحويلها إلى أزمة.
ويظل السؤال: مَن يجرؤ في لبنان على فتح الحديث مع سوريا حول الحاضر، وبعده المستقبل، طالما أن رئيس الجمهورية الذي كان سوري الهوى متهم الآن بالتواطؤ لمنع قيام حكومة الأكثرية، والأكثرية تبدو عاجزة عن تجاوز قيودها الطائفية والمذهبية، والوصاية الدولية تفيد من الأزمة بطبيعة الحال... ومَن هو المجنون الذي يتوقع منها أن تسهم في حلها؟
أما دمشق فتبدو وكأنها أدخلت نفسها في غمار حرب وقائية تجاه الخطر الآتي من لبنان مهدداً المستقبل، أكثر منها معنية بتصفية آثار الماضي الذي ينعكس بؤساً على الحاضر ويؤذي الشعبين في جوهر علاقاتهما الأخوية.