بمنتهى الصراحة، ان الاستقواء على لبنان لا ينفع سوريا ولا لبنان، وإذا كانت هناك حاجة الى دليل على ذلك، يمكن العودة الى البيان الأخير الصادر عن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في شأن العلاقات بين بيروت ودمشق.
لم يكتف البيان الأوروبي بتأكيد أن ثمة حاجة الى تسهيل عبور البضائع بين سوريا ولبنان، بل وضع هذه المسألة في إطار أوسع، إنه إطار دعوة سوريا الى لعب دور على صعيد دعم الاستقرار في المنطقة. وهذا يعني، استناداً الى الأوروبيين، أن على سوريا دعم الحكومة اللبنانية الجديدة مع ذكر السيد فؤاد السنيورة بالاسم، ودعم العملية السياسية في العراق «بما في ذلك التعاون مع السلطات العراقية لمنع عبور الارهابيين الحدود والامتناع عن تقديم الدعم لهم»، و«وقف الدعم للجماعات التي تعارض عملية السلام في الشرق الأوسط ودعوتها الى الامتناع عن استخدام العنف».
يبدو الموقف الأوروبي من سوريا في غاية الوضوح، إنه يدعوها الى إقامة علاقة “مثمرة” مع الاتحاد الأوروبي مع الاشارة الى أن مساهمة سوريا في دعم الاستقرار في المنطقة سيشكل مساهمة “في تعميق العلاقة السورية ـ الأوروبية”. ومن هذا المنطلق لا يمكن القول ان الموقف الأوروبي من سوريا سلبي مئة في المئة. على العكس من ذلك انه دعوة لسوريا الى التعاون، وإذا كنا نريد أن نكون أكثر دقة، أمكن القول ان الأوروبيين يعرضون على سوريا صفقة تشمل اتخاذ موقف إيجابي من لبنان والتوقف عن لعب دور سلبي في العراق وفي فلسطين في مقابل إعادة تأهيل النظام فيها.
هذا الكلام ليس جديداً عموماً. وربما كان الجديد فيه الاشارة الى قضية إغلاق الحدود السورية في وجه البضائع الآتية من لبنان مع التشديد على أهمية دعم الحكومة التي ينوي تشكيلها فؤاد السنيورة و“الترحيب” بتسميته رئيساً لمجلس الوزراء. وهذا يعني أن على سوريا أن تأخذ في الاعتبار أن العالم يراقب تصرفاتها في لبنان عن كثب من جهة وأنه يعتبر أن ليس في استطاعتها تقديم تنازلات في العراق وفلسطين والتشدد في لبنان من جهة أخرى وبكلام أوضح ان استقبال السيد محمود عباس “أبو مازن” رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في دمشق على أعلى المستويات لا يقدم ولا يؤخر إذا كانت السلطات السورية تعتقد أن ذلك يعطيها ضوءاً أخضر في لبنان تستطيع أن تفعل فيه ما تريد. ان ورقة فلسطين ليست صالحة في لبنان، ما هو صالح في لبنان هو ورقة لبنان.
لا مفر من اعتبار التصرفات السورية في لبنان جزءاً لا يتجزأ من دفتر فيه شروط متكاملة على سوريا الالتزام بها، وكلما اقتنعت دمشق بذلك، كلما اقتربت من استيعاب المعنى العميق للتحولات التي شهدتها المنطقة والعالم منذ انتهاء الحرب الباردة وحتى حصول عملية احتلال العراق بواسطة الجيش الأميركي في العام 2003.
هذا هو الواقع الذي لا بد من التعامل معه، انه واقع يمنع سوريا من تفادي التعاطي بشكل حضاري مع لبنان بحجة أنها قررت التعاطي بشكل حضاري مع تركيا أو أنها وافقت على التعاون مع الأميركيين في العراق أو أنها وافقت على ترسيم حدودها مع الأردن... أو أنها توقفت عن إثارة المشاكل للسلطة الوطنية الفلسطينية.
في النهاية، ان السلطات السورية مدعوة من أكبر مسؤول الى أصغر مسؤول فيها الى التصرف بطريقة مختلفة في لبنان بعيداً عن فكرة الانتقام والاعتقاد بأن اللبنانيين سيركعون في النهاية مطالبين بعودة الجيش السوري الى أراضيهم ليحفظ لهم الأمن، إذ أن لا أمن ولا أمان من دون الوجود العسكري السوري في لبنان!
هذه الصفحة طويت، كانت هناك في منتصف السبعينات ظروف دولية واقليمية أدت الى ضوء أخضر أميركي مكن سوريا من الدخول عسكرياً الى لبنان. الظروف تغيّرت، لم يعد هناك ضوءأخضر أميركي ولا ضوء أصفر. كل ما هناك أن سوريا أمام استيعاب المعادلة الجديدة أو رفضها. إذا استوعبتها خدمت نفسها وخدمت لبنان، خدمت نفسها في المدى الطويل لا لشيء سوى لأنها لا تستطيع أن تنتقي ما تريده من الشرعية الدولية. وأن ترفض ما تشاء منها. والشرعية الدولية التي تقول انها تتمسك بها من أجل استعادة الجولان المحتل يوماً، لا يمكن أن تستمر في خرقها في لبنان. الشرعية الدولية كل لا يتجزأ، كذلك دفتر الشروط المطروح على دمشق أكان أوروبياً أو أميركياً!