يعود عنوان هذه المقالة إلى كتاب صدر باللغة الألمانية منذ بعض الوقت. أما مؤلف هذا الكتاب فهو "بيتر آيفن"، مؤسس منظمة (الشفافية العالمية)، ولعله واحد من أهم ما كُتب حول موضوع الفساد والإفساد، وهو، لهذا، مهم بامتياز بالنسبة إلى الفكر السياسي والاجتماعي العربي، أي إلى فكر يجد نفسه منغمساً في لجة أوضاع عربية مخترقة - في عمقها - بآليات متصاعدة من الفساد والإفساد. وعبر قراءة تركيبية نقدية للكتاب في ضوء مشكلات الفساد والإفساد في المجتمعات العربية ومن ثم في ضوء متطلبات إصلاح ديمقراطي فعلي فيها، يمكن ضبط الأطروحات الرئيسية، التي يمكن التوصل إليها، في ثلاث هي:
أولاً, يجد الفساد جذوره الكبرى في حالة الفقر والإفقار. وثانياً, يجد الفقر والإفقار بعض جذورهما في الفساد. وثالثاً, يجد الإرهاب الفردي، خصوصاً، جذوره أو بعضها في كلتا الحالتين السابقتين. وتقوم نظرية أخرى على أن الفساد والإفساد ليسا وضعين خاصين بالبلدان النامية، فمؤلف الكتاب يتحدث عن "خريطة الفساد العالمية" التي يدخل فيها العالم من أوروبا الغربية، إلى جنوبي أفريقيا.
هكذا، تتضح إشكالية الفساد والإفساد وخطورتها العالمية، التي لا تستثني بلدا إلا إذا كان خاضعاً لحصار من قِبل نظامه السياسي- الاقتصادي. إذا تناولنا ما ورد من أطروحات، فأن يكون الفقر والإفقار من مؤسسات الفساد والإفساد، أمر تُدلل على صحته أحداث لا تحصى سواء في المجتمعات العربية، أم في غيرها. وربما كان هذا النمط من الفساد والإفساد في مقدمة ما نواجهه من هذين الأخيرين: إن من لا يمتلك كفايته المادية، إنما هو أقرب الناس إلى إمكانية استباحة كرامته، ومن ثم الغوص في دائرة الفساد والإفساد، وهذا يصح بعمق أكبر، حين يتصل بأولئك الذين يفتقدون حرياتهم السياسية خصوصا، ويخضعون لهيمنة قوانين للطوارئ والأحكام العرفية، كما هو الحال في معظم العالم العربي. أما الأطروحة الثانية، فهي ليست جديدة في هذا الحقل، ولقد كان ابن خلدون رائداً في ذلك، حين بشر بخراب البلاد وبفقر العباد، إذا عمّ الرفاه الفاسد، أي الذي يتأسس على "حضارة" تتضمن في أثنائها اتجاه الاستهلاك الباذخ وبروز فئات من التجار والسياسيين والعسكريين يقتاتون من حقوق الفقراء والمفقرين. أما جِدّة الأطروحة المذكورة فتتمثل في نقطتين اثنتين، هما اتساع المحور، الذي تندرج فيه تجليات الفساد والإفساد, وثانياً, تحوُّل عملية تعميم هذين الفساد والإفساد إلى ما يقترب من السياسة غير المعلنة لكثير من الأجهزة الأمنية في جلّ العالم العربي. وتلخيصاً لهذه الأطروحة يمكن القول: المال الحرام يذهب بصاحبه إلى الفقر والذل والمهانة.
في هذا المنعطف من المسألة، نصل إلى الأطروحة الثالثة، فهذه تقوم على أن ظاهرة الإرهاب الآخذة راهناً بالاتساع والشمول في مناطق من العالم ليست أمراً عابراً في حياة الأفراد والجماعات، وإنما هي حالة مركّبة تلتقي فيها عوامل كثيرة ومتعددة المرجعيات. فهي وليدة الفقر والإفقار من جهة، والفساد والإفساد من جهة أخرى، إضافة إلى تفكك منظومات القيم الوطنية والثقافية والأخلاقية. ومن ثم، فإن غياب المساواة والحرية على الصعيدين الشخصي والمجتمعي، مثلا أرضاً خصيبة لاندلاع صيغة من صيغ الإرهاب. وفي هذا كله، يغدو لزاماً على السياسي المصلح والمفكر والمثقف أن يقوموا بتفكيك تلك الصيغ ودراستها كي يصلوا إلى المسبب لها.
إن تلك النقاط، التي جرى التوصل إلى وضع اليد عليها، والصورة القائمة التي تفرض نفسها على صعيد استراتيجيات مكافحة الفساد والإفساد في بلدان متعددة، ربما تقودان إلى نوع من القنوط والتشاؤم، وهذا ما وصل إليه مؤلف كتاب "شبكات الفساد والإفساد العالمية" "بيتر آيفن". فهو يكتب: لأول وهلة يرسم تقرير الفساد العالمي صورة باعثة للتشاؤم، ففي كل يوم يبدو الفساد شيئاً لا سبيل إلى استئصال شأفته، وربما كان في وسع المرء أن يقول إننا كتبنا على أنفسنا، نحن في (الشفافية العالمية) أن ننهض بعبء عمل من أعمال الجبابرة الأسطوريين. ففي كل يوم تُضاف متغيرات جديدة من الرشوة والغش والمخادعة، وكأننا نتصدىي لوحش مرعب نبثق من كل رأس مقطوع من رؤوس الأفعى الأسطورية المتعددة الرؤوس. ويستدرك الكاتب قائلاً: ومع ذلك، فلدى النظرة الثانية يتسم الوضع بكل شيء إلا أن يكون ميئوساً منه، ذلك لأن الاهتمام العام يُعد وحده نجاحاً.
فإذا كان الأمر على ذلك النحو فيما يتصل خصوصاً ببلدان أوروبية وأميركية، فكيف هو الحال بالنسبة إلى البلدان العربية؟.