يرسم مشروع الوثيقة السياسية لحركة اليسار الديمقراطي في لبنان آفاقا متقدمة ليسار عربي من طراز جديد .
هاهنا يولد تيار يساري عربي بعد احداثه قطيعة مع جملة من المسائل المنهجية :
- نهج الماركسية العقائدية التي تنقلب الى مذهبية ثم تنحط في طبعتها العربية الى دوغما . وموقفها من الالحاد .
- نهج اللينينية التي تميزت بمفهوم خاص لديكتاتورية الطبقة العاملة ، ودور الحزب ، ومسألة المركزية الديمقراطية ، والمفهوم الثوري الانقلابي المرتبط بالعنف من اجل احداث التغييرات الاجتماعية .
- نهج الأحزاب اليسارية العربية في ارتباطها القديم بالاتحاد السوفييتي وضياعها الجديد بين تمسك غير عقلاني بتجربة تاريخية منتهية وبين تحولها نحو يسارية –ليبرالية غامضة الرؤية والأهداف .
- وبصورة لافتة سعت حركة اليسار الديمقراطي اللبناني الى القطيعة مع المفاهيم الحزبية القديمة البالية ، وتجاوزها ، ليس من داخل تلك المؤسسات ولكن من خارجها بالسعي لبناء علاقات من طراز جديد ، دون إشعال الصراعات داخل الهياكل القديمة .
يتميز الخط السياسي لليسار الديمقراطي اللبناني بابتعاده عن الخطابية الشعاراتية وعقلانيته وواقعيته من جهة وبانسجامه المنطقي وتماسكه ووضوحه ومبدئيته من جهة أخرى .
تعطي قراءة مشروع الوثيقة السياسية الانطباع بخط تكاملي تمسك كل حلقة فيه بالأخرى .
تصف المقدمة كيفية تشكل حركة اليسار الديمقراطي من يساريين من مشارب فكرية متعددة ، ومن تجارب حزبية وطلابية واجتماعية ونقابية وثقافية ..الخ.. اجتمعت لتأسيس فاعلية جماعية للتواصل مع المجتمع واستنهاض قواه الحية ومواجهة التحديات .
وكفكرة مرجعية تعتمد الحركة –الديمقراطية- وتعيشها داخليا عبر الحوار والتنافس والنقد ، ثم يأتي القطع مع تجربة الحزب الثوري الانقلابي والمركزية المتشددة ، وتثبيت نهج التغيير السلمي الديمقراطي في لبنان على قواعد الاستقلال وبناء دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية .
تدعو الحركة الى بناء ائتلاف واسع لليسار في لبنان وتتواصل مع اليساريين الديمقراطيين في فلسطين وسورية وسائر البلاد العربية وتدعم جهودهم للتحرر والاصلاح .( تنفتح الحركة على التجارب اليسارية الجديدة في العالم ، ونضالات الحركات العمالية والاجتماعية وتحالفات قوى العولمة البديلة ) والقصد هنا قوى مناهضة العولمة .
تعيد الوثيقة تعريف اليسار كنقطة انطلاق منهجية بوصفه حركة سياسية أوسع من الماركسية يضم في صفوفه ماركسيين وغير ماركسيين ، يلتقون على مواجهة الرأسمالية السائدة لصالح مجتمعات انسانية عادلة تحترم الانسان وحقوقه وعمله وتؤمن بالديمقراطية .
هنا يتم الافتراق بين مفهوم الأحزاب أو الحركات الاشتراكية المؤسسة على الدعوة لنموذج اجتماعي منجز في الوعي ( المجتمع الاشتراكي ) وبين مفهوم حركة اليسار الديمقراطي التي تعي أنه ( صار لزاما علينا أن نحدد صورتنا لافي الأهداف الخيالية بل في المعارك الملموسة من أجل التغيير ، وعلى أساس معايير الامكان أكثر من معايير الجذرية ) ويعتبر هذا الافتراق أساسيا كونه ( يحدد البرامج والخطط والتحالفات والممارسات ) ، بعد هذا التعريف تتقدم الوثيقة نحو ( مكونات هويتنا كيساريين لبنانيين ) فتعيد اكتشاف الهوية اليسارية الديمقراطية الجديدة في الواقع اللبناني حيث تنبسط تلك الهوية عبر مهام اجتماعية تطرحها خصائص المجتمع اللبناني وضرورات تقدمه نحو المستقبل .
تقدم المجتمع اللبناني ، ضمان عدالة التوزيع ، الدفاع عن مصالح قوى الانتاج ، النضالات الاجتماعية والنقابية ، الدفاع عن ذوي الدخل المحدود ، النضالات الانسانية ، المرأة ، الحريات ، البيئة ..الخ ..، ويجري ابراز عناوين رئيسة منها الديمقراطية والهوية العربية .
في الفقرة التالية تتعرض الوثيقة للمسألة التنظيمية فيما هي انعكاس لفهم الديمقراطية وتفصل في ضرورة حضور الرأي العام الحزبي والانتخاب المباشر من كل أعضاء الحركة ، وحق الأقلية في التعبير عن نفسها ، وضرورة الاصطفاف في تيارات وبرامج داخل الحركة .
في تحليل الظروف الدولية والعربية الراهنة تنطلق الوثيقة من تطور الرأسمالية نحوالعولمة العسكرية ، وتعتبر ما جرى في 11 ايلول حلقة مواجهة ضمن التحولات العالمية التي اطلقها انهيار نظام الثنائية القطبية ( المواجهات هنا ليست بالمعنى الايجابي ، ولكن تشير الى انفتاح صراع على امتداد العالم دون قيود ) ، كما تعتبر أن سياسة الهيمنة الأحادية هي المسؤولة عن زعزعة الأمن في العالم ، وكذلك مانتج عنها من احتلال العراق ودعم الاحتلال في فلسطين ، لكن الوثيقة تميز بين أشكال من الاعتراض بعضها مدني وسياسي وآخر متطرف عنيف يتخذ أحيانا شكل عنف أعمى ، هنا تلاحظ الوثيقة أن( اندفاعة العنف هذه تأتي على خلفية ضعف البدائل اليسارية والديمقراطية أو غيابها نتيجة القمع والاستبداد )، ولعلنا بحاجة للبحث عن أسباب أخرى .
تدين الوثيقة احتلال العراق ، وتميز بين العمل المقاوم للاحتلال الأمريكي والارهاب الموجه ضد المجتمع وترى أن الخلاص في تحرر العراق من الاحتلال وتنظيم انتخابات وطنية ديقراطية .
بالنسبة للتحليل السابق ثمة ملاحظة تتعلق بضعف الربط بين استراتيجية العولمة المعسكرة التي أفضت لاحتلال العراق من جهة واستراتيجية مفترضة للقوى المناهضة للعولمة والتي لايمكن لها أن تتجاهل ضرورات مواجهة استراتيجية العولمة العسكرية بالقوة أحيانا كما في حال احتلال العراق ، وبالتالي تثمين دور المقاومة العراقية ليس لدفاعها عن سيادة العراق المنتهكة فحسب ولكن لمساهمتها في كسر النزعة العسكرية الخطرة للعولمة . وبالتالي فتح الآفاق أمام المقاومة السلمية ، وبدون كسر النزعة العسكرية للعولمة يغدو كل حديث عن مناهضة سلمية ضربا من الرومانسية الحالمة ، قبل كل شيء ينبغي إعادة ذلك الوحش المنفلت إلى قفصه وهذا ما تساهم فيه المقاومة العراقية بصورة لا تحتمل التأويل .
برغم تقدم موقف الوثيقة أشواطا على موقف اليساريين - الليبراليين السوريين الذين لايعترفون بالمقاومة العراقية ( أين هي المقاومة العراقية ؟ نحن لا نرى سوى الزرقاوي) فهو يبقى مجالا للنقاش .
في المسألة الفلسطينية ، اتجهت الوثيقة نحو التركيز على دعم نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته للعدوان الاسرائيلي والضغوط الأمريكية وضرورة الحوار بين كافة الأطراف الوطنية الفلسطينية والاتفاق على استراتيجية موحدة .
يظهر خط اليسار الديمقراطي اللبناني في تجنب التركيز على الحلول النهائية والنماذج المكتملة والتركيز بدلا عن ذلك على مجرى النضال ذاته ومتطلباته و( على أساس معايير الامكان ) .
تشدد الوثيقة على مسألتي الانتماء والهوية العربية باعتبارهما موضوعين أساسيين للصراع في ظل العولمة ، من هذه الزاوية تطل الوثيقة من خلال هاتين المسألتين على المستقبل وليس على الماضي ، وتربط بينهما وبين التنمية والتحول الديمقراطي والتحرر الوطني .
في تلك النقطة يتوضح الافتراق بين نظرة مجردة لمسألة الوحدة العربية ( خارج الزمان والمكان ) لا تصلح إلا كشعار فارغ ، وبين وعي مسألة الانتماء والهوية كموضوع أساسي للنضال مشتبك مع الموضوعات الأخرى مثل التحرر والتنمية والديمقراطية ومناهضة العولمة ، هذا الافتراق هو مايميز اليسار العربي الجديد في فهمه للمسالة القومية ، وسوف ينعكس المفهوم الجديد لاحقا في الاستراتيجية والبرنامج ، وصولا نحو النظرة الى لبنان العربي وعلاقة اليسار الديمقراطي اللبناني بالقوى الديمقراطية والشعبية العربية ، هكذا نقرأ في فقرة لاحقة : ( لابد لليساريين ان ارادوا التغيير أن ينخرطوا في مبادرات وانشطة تنسيق عربية على المستويين السياسي والاقتصادي ، وعلى مستوى قوى المجتمع المدني ) .
هنا يصل فهم الانتماء العربي الى تطبيقه الواقعي ، ويخرج عن كونه مجرد حلم او ايديولوجيا ، بل ويكتسب بعدا حضاريا وعقلانيا وتنمويا حسب عبارة الوثيقة .
اليسار الديمقراطي اللبناني هو أول يسار عربي يتمكن من إعادة اكتشاف الهوية العربية ليس في الماضي ولكن في المستقبل وفي خضم الكفاح ضد قوى الهيمنة العولمية الرأسمالية ومن أجل الديمقراطية والتنمية .
وفي وقفة تأمل يتملك المرء الشعور بالأسى لحال تيارات اليسار في سورية في ارتدادهم نحو انتماء سوري يدير ظهره للحقيقة العربية ويخرجها من دائرة الاستراتيجية والبرنامج إلى دائرة هامشية لاوزن لها في مجرى الفعل الواقعي ، وذلك سبب من الأسباب لضرورة التفكير بتميز خط يسار ديمقراطي في سورية .