نشر مركز سابان لدراسات الشرق الأوسط بمؤسسة بروكنز دراسة لكل من مارتن اندك وتمارا كوفمان تحت عنوان "إعادة التوزان في الشرق الأوسط.. نحو استراتيجية بناءة للاحتواء"، وهدف تلك الدراسة هو تلمس مقاربات جديدة للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية.

وفي حين ما زال كثير من النخب العربية غير مصدق لحجم وعمق مأزق السياسة الأمريكية في المنطقة "ربما لا يريد ان يصدق بعد أن وضع رهانه على القوة الأمريكية القادمة" فان مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية قد تجاوزت بالفعل مسألة الاعتراف بفشل الاستراتيجية الأمريكية الراهنة.

فحسب الدراسة المقدمة من قبل اندك وكوفمان بتاريخ 21 تموز 2007 "يجب الاعتراف بعدم نجاعة الأداة العسكرية في حل مشاكل المنطقة " وبالتالي العودة للأدوات الديبلوماسية، وكذلك استعادة استراتيجية الاحتواء المزدوج، حيث يتم تأمين المصالح الأمريكية في المنطقة ليس عن طريق القوة المجردة ولا عن طريق مجرد التحالف مع فريق ضد آخر ولكن عن طرق الامساك بخيوط ديبلوماسية مع طرفين متصارعين يؤمن بقاء صراعهما حالة ضعف عامة في المنطقة العربية وحاجة ماسة للدعم الأمريكي. فالاستراتيجية الجديدة المقترحة برسم الرئيس الأمريكي القادم -وهي بالتأكيد استراتيجية ما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق رغم ان الدراسة لم تقل ذلك بصريح العبارة- ليست مؤسسة على الانحياز للدول العربية المعتدلة انحيازا تاما وخوض الصراع لتحطيم المعسكر الآخر بل على الاعتراف بالوجود الواقعي للمعسكرين وتغذية عوامل الانقسام بينهما.

فبدلا من مهاجمة ايران وتدمير قدراتها النووية تقترح الدراسة اتباع دبلوماسية حذرة مع إيران تقوم على الضغط من أجل وقف برنامجها النووي، وفي المقابل "دعم قوى الاعتدال في العالم العربي، والتي يمكنها أن تقف في مواجهة النفوذ الإيراني، وتمنع انتشار التيارات الراديكالية في المنطقة. وهو ما يمكن تحقيقه من خلال دفع عملية السلام بين العرب وإسرائيل، وتقوية التحالف بين الطرفين من أجل مواجهة إيران".

يستبطن ذلك التفكير التسليم ببقاء بعض النفوذ الايراني في العراق خاصة والمنطقة العربية عموما. ما يهم هو موازنة ذلك النفوذ ببناء تحالف مضاد وهي سياسة مشابهة لسياسة الاحتواء المزدوج التي مارستها الولايات المتحدة خلال الثمانينات من القرن الماضي حين شجعت تفجر الصراع بين ايران والعراق واستمرار ذلك الصراع ثماني سنوات، ولعل أهم فارق بين تلك السياسة والسياسة المقترحة اليوم هو السعي لابقاء الصراع بين الخصمين ضمن حدود دنيا من المواجهة العنيفة بسبب الخوف من خروج الصراع عن السيطرة في ظل وضع يتسم بانحسار الهيمنة الأمريكية على المنطقة. وتشير الدراسة لذلك بطريقة غير مباشرة "يجب احتواء الحرب الأهلية في العراق، وذلك من أجل منع وصول الانفجار الداخلي إلى بقية أرجاء المنطقة العربية".

لنلاحظ كيف يتم دمج الوضع بالنسبة للصراع العربي ـ الصهيوني باستراتيجية الاحتواء المزدوج المقترحة، فالاستراتيجية بحاجة لنوع من "تفاهم" بين الدول العربية المعتدلة واسرائيل لمواجهة الخطر الايراني، ولبناء مثل ذلك التفاهم ينبغي لاسرائيل السعي للتهدئة وتقديم بعض التنازلات "ليست تنازلات حقيقية وهامة بالضرورة" وينبغي للعرب المعتدلين الاهتمام ببناء جسور مع اسرائيل أكثر مما فعلوا حتى الآن.

نلحظ في الدراسة بعض الغموض تجاه سورية حيث لم تذكر ضمن المعسكر الذي يضم ايران بطريقة حاسمة، وهناك اشارة نحو العمل لفك تحالفها مع ايران "تجديد الجهود الخاصة بحلحلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من فك ارتباط سوريا بإيران".

وبعد ان كانت الاستراتيجية الأمريكية للمحافظين الجدد قد أخذت على عاتقها "نشر الديمقراطية" بالسيف في المنطقة العربية، تتحدث المقترحات الجديدة عن انتهاء ذلك الحلم واستبداله بهدف أكثر واقعية هو السعي لبناء الجسور بين الحكومات والشعوب واقناع الحكومات بأجندة "اصلاح سياسي واقتصادي طويل المدى"، وبترجمة ذلك الكلام المنمق للغة أكثر صراحة ثمة اعتراف بفشل عسكرة العولمة من جهة وارتداد نحو سياسة كانت متبعة في الواقع قبل تلك الموجة الحمقاء تتمثل في السعي لتوسيع العولمة بوسائل ديبلوماسية واقتصادية أساسا دون ان ننسى المكائد السياسية والجهد الاستخباراتي.

بالنسبة لنا ينبغي دراسة المقترحات الجديدة للاستراتيجية الأمريكية بحذر. فما هو مطبق حتى الآن هو استراتيجية المحافظين الجدد، وأصحاب تلك الاستراتيجية ما زالوا في مركز القرار، ولا أحد يعلم كيف يفكرون في الخروج من مأزقهم الكبير في العراق.

في الحقيقة لا تعدو دراسة اندك ـ كوفمان عن كونها محاولة من جملة محاولات كثيرة لاستباق فشل استراتيجي ارتسمت معالمه بوضع مخارج للمحافظة على المصالح الأمريكية في المنطقة في الفترة القادمة، لكن الممسك بدفة السفينة في البيت الأبيض ما زال يفكر بطريقة مختلفة. ومن الآن وحتى يتم استبدال الطاقم السياسي الحالي للادارة الأمريكية بضوء الانتخابات القادمة سوف تبقى كل الاحتمالات مفتوحة بما في ذلك أسوأها، أعني الهروب نحو الأمام بتوسيع دائرة العنف واشعال حروب جديدة.

من وجهة نظر عربية يفترض الابتعاد عن الانزلاق للاستقطاب الذي تسعى له الولايات المتحدة، وجسر المسافة بين ايران والدول العربية، واطفاء نار الفتنة المذهبية ومحاصرتها، والاصرار على اولوية الصراع العربي ـ الصهيوني، وعدم تقديم الجوائز المجانية للكيان الصهيوني، والمحافظة على روح المقاومة وأدواتها في كل من فلسطين والعراق ولبنان.

مصادر
كنعان أون لاين (الولايات المتحدة)