خلال العقود السابقة أظهرت الوطنيات القطرية هشاشة وقابلية للانكسار، ومثال العراق ليس المثال الوحيد في هذا الصدد، وإن كان الأكثر افتضاحا ودموية، لدى البعض يطرح ذلك مسألة التأكيد على الهوية الوطنية ، لكنه يطرح منطقيا أيضا مسألة الانتماء القومي كهوية حضارية بمواجهة الطائفية المتعصبة والمتخلفة.
بطريقة أخرى الانتماء القومي مطلوب كهوية جامعة بسبب عدم كفاية الوطنيات القطرية وعجزها عن الوقوف بوجه الطائفية تحديدا.
اذا تصورنا اليوم خلاصا للعراق من مصير تقسيمي فالأرجح أن ذلك الخلاص يمر عبر نمو وعي قومي عربي لدى الشيعة يعاكس التيار الطائفي الذاهب باتجاه التقسيم والالتحاق بايران، ويمثل نمو هذا الوعي نموذجا للوظيفة التقدمية للفكر القومي المتجدد.
اذن بدلا من التحليق بعيدا لابد من التقاط الأفكار المرتبطة بواقع الصراع الجاري وتطويرها.
في لبنان هناك مقاومة تزداد عروبة باطراد، فقبل عشرين عاما كانت العروبة تهمة بالنسبة لحزب الله، اليوم يختلف الأمر جذريا، بعد حرب تموز أصبح حزب الله أكثر عروبة من أي وقت، وفي قلب المعركة كان السيد حسن نصر الله يتكلم عن الدفاع عن الأمة وانتصار الأمة، ورغم وجود بعض الغموض في مفهوم الأمة المقصود الا ان المستمع العادي لابد أن يذهب لمفهوم الأمة العربية او الأمة العربية – الاسلامية.
مقابل ذلك فان الأفكار الانعزالية التقليدية للمارونية السياسية تظهر اتجاها متزايدا نحو التعديل، ففكرة العروبة الديمقراطية أصبحت أكثر رواجا، كما ان فكرة الخصوصية اللبنانية المرتبطة بخصوصية فينيقية مزعومة تكاد تحتضر.
وكما في حالة العراق فخلاص لبنان سيمر على الأرجح بازدياد انخراط حزب الله وتياره السياسي بفكرة الانتماء العربي، وكذلك المارونية السياسية ، هكذا تصبح العروبة بالنسبة للبنان جسر تلاق ، ومعبرا نحو الانعتاق من أسر الطائفية.
يظهر التحليل السابق مدى الخطأ في تأسيس الوطنية اللبنانية في مواجهة سورية، وكيف أن من يسيرون في هذا الاتجاه يعملون في اتجاه معاكس لخلاص لبنان.
حتى الآن أظهرت الوطنية اللبنانية – رغم التغني الواسع بها – عدم كفايتها للحفاظ على تماسك لبنان بوجه الانقسامات الطائفية، وتعيدنا تلك الحقيقة لدور مستقبلي للعروبة في استعادة اللحمة والتماسك ضمن المجتمع اللبناني ودفعه في طريق الخلاص من الطائفية السياسية ونتائجها المدمرة.
لكن حين تصبح العروبة ملجأ وملاذا للوطنية في مواجهة الطائفية، يصبح من حقها أن تتبوأ مكانة أفضل داخل المجتمع، ولذلك تبعاته على أكثر من صعيد، لكن أكثر ما يجذب الانتباه هو الصعيد السياسي، فتجدد الفكرة القومية العربية وتجذرها داخل حيز الوطنية القطرية ذاته يوحي بعروبة عابرة للحدود القطرية واذا كانت وظيفة العروبة داخل حيز الوطنية القطرية تتمثل في مواجهة الانقسامات الطائفية، فما هي وظيفة العروبة عابرة الحدود؟
اقتصاد أوسع ، انسياب لقوى العمل والاستثمارات، انتقال للأفراد بحرية أكبر، تبادل تجاري وثقافي، الا يشعر الجميع اليوم بحاجة ماسة لكل ذلك؟.
في بلدان الخليج ثمة طلب للقوة العاملة، وفراغ سكاني، وفي بلدان مثل بلاد الشام ومصر ثمة فائض بشري وكفاءات مهدورة، وفرص كبيرة للاستثمار.
لكن قبل ذلك وأهم منه تأتي ضرورة الدفاع عن المنطقة العربية بوجه نظريات ملء الفراغ، فالحملة العسكرية الأمريكية لم تنته بعد، وبعد أن تنتهي بالفشل كما هو متوقع، ستحتاج المنطقة الى جهود كبيرة للدفاع عن هويتها وأمنها، ولا يحتاج لتفكير عميق الاستنتاج أن العروبة ستكون لحمة تلك الجهود ومرجعيتها، كما هو الحال داخل الوطنيات القطرية.
ثمة مقولة سابقة كانت تقول ( الاشتراكية او البربرية) بما يعني أن البديل عن الاشتراكية تاريخيا ليس سوى الانتكاس نحو البربرية، لن نناقش هنا تلك المقولة ولكن المرء أصبح يرى بطريقة مشابهة ( العروبة او الطائفية) فالوطنية القطرية لم تعد قادرة على الدفاع عن نفسها كما نرى في العراق ولبنان.
مكانة الديمقراطية في العلاقة مع القومية والوطنية:
يعني الطرح الديمقراطي القطع بصورة تامة مع الفكر القومي الشوفيني، وافساح المجال للقوميات الأخرى والنظر اليها بروح المساواة والأخوة، فالقومية الديمقراطية هي وعي للهوية الثقافية والحضارية لايتضمن شعورا بالتفوق أو التنكر للآخر.
والعروبة الديمقراطية لا تشكل فقط ضمانا بوجه استخدام العقيدة القومية ضد القوميات الأخرى ولكنها تشكل ضمانا أيضا ضد استخدام القومية غطاء للاستبداد، بل هي ضمان لجميع الأقليات ضد تذويب خصوصياتها الثقافية وذلك بالضبط مغزى انتشار مفهوم العروبة الديمقراطية في لبنان مؤخرا في أوساط المارونية السياسية.
يقدم المفهوم الديمقراطي حلا للعلاقة بين الوطنية القطرية والقومية، فالانتقال من الوطني نحو القومي على الصعيد السياسي لا يمكن ان يكون قسريا بل لا بد ان ينبع من ارادة شعبية ديمقراطية، والمؤسسات الديمقراطية التي تتيح ذلك الانتقال هي وحدها القادرة على حمايته وتصويبه، وذلك هو درس تجارب الوحدة السابقة، لكن مثل ذلك الانتقال لا يمثل سوى لحظة من لحظات تجسيد الوعي القومي الديمقراطي في الواقع، هذا الوعي الذي يمتد لمساحات أوسع بكثير من خطوات محدودة هنا او هناك، ومن الضروري الابقاء على مسافة كافية بين ذلك الوعي وبين أية خطوات سياسية محددة، فالوعي القومي الديمقراطي يرتبط بمفهوم الانتماء والهوية ويمثل ذلك مرجعية عليا غير قابلة للاختزال بأهداف سياسية محدودة، في السابق ظهر الوعي القومي باعتباره عقيدة للوحدة، وحين ضربت تجربة الوحدة بين سورية ومصر اعتبر ذلك فشلا للفكر القومي، الوحدة أي وحدة ناتج للوعي القومي، لكنه مثلما كان سابقا عليها فسيستمر بعدها ويتجدد طالما أن التاريخ يمنحه الفرصة ليكون مهمازا لتقدمه الذي لايتوقف.