كتبت صحيفة إسرائيلية مقالا ادعت فيه أن السبب الأساسي لأمراض إسرائيل هو الدين اليهودي، وعنوان مقالها هو "كيف ابتليت الصهيونية السياسية بالدين اليهودي؟" وتدعي هذه الصحيفة أن الصهيونية حين ولدت كفكرة كانت "متنورة ومثيرة وغنية بالوعود"، ولكنها لم تعرف "كيف تفصل المستقبل الصهيوني عن الماضي اليهودي؟". وفسرت التمييز العنصري ضد العرب بأنه "نابع من الشذوذ الإسرائيلي الناجم عن تبني النموذج الرجعي الذي تطرحه اليهودية الأرثوذكسية في إسرائيل، والذي يؤثر عليها". فالدولة الصهيونية - في تصورها- أصبحت دولة دينية مع أن الأيديولوجية الصهيونية أيديولوجية علمانية، قومية ليبرالية.
وتصور أن إسرائيل "أصبحت" دولة دينية وهمٌ يسيطر على كثير من المستوطنين الصهاينة، كما أن تصور هذه الدولة باعتبارها دولة يهودية إما بالمعنى الديني أو المعنى الإثني الثقافي أو العرقي وهم يسيطر على معظم العرب. وقد كتب الكاتب الصحفي شموئيل شامير مقالا بعنوان "الصهيونية: كولونيالية أم دين" (28 أبريل 2005)، يوضح فيه هذه النقطة، ويصنف الدولة الصهيونية تصنيفاً له مقدرة تفسيرية عالية، (ورد المقال في نشرة المشهد الإسرائيلي التي ينشرها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار)، فهو يرى أن نقطة انطلاق الصحيفة الإسرائيلية مغلوطة تماما، وأنه من الضروري أن نرى الكيان الإسرائيلي باعتباره كيانا كولونياليا (استعماريا)، ومن ثم فإن الطريق لحل الصراع لن يكون إلا عن طريق تبني سياسة معادية للاستعمار.
ويذكرنا الكاتب بأن اليهودية الأرثوذكسية عارضت الصهيونية كلية منذ بدء ظهورها للأسباب التالية:
1- كانت المؤسسة الدينية تخاف فقدان السيطرة على المهاجرين (إلى فلسطين). وقد عارضت كذلك الهجرة للولايات المتحدة وأوروبا الغربية. وهي كانت على حق فمعظم المهاجرين تمت علمنتهم، وانحرفوا عن العقيدة اليهودية أو تبنوا صيغا مخففة منها لا علاقة لها باليهودية الأرثوذكسية.
2- الصهيونية كانت حركة قومية تبنتها الحكومات الأوروبية غير اليهودية، وهي حركة نشأت على غرار الحركات القومية العلمانية في الغرب، وهي حركات قامت على خلفية علمانية واستبدلت الفكر الديني بفكر علماني. وهذا ما حدث لليهود الذين انخرطوا في الفكر القومي الصهيوني.
3- كان الآباء الأوائل الصهاينة ورواد الفكر الصهيوني مثل تيودور هرتزل وماكس نورداو وبن جوريون من العلمانيين الرافضين للدين اليهودي وأي دين.
4- ويمكن أن نضيف نحن أن اليهودية الحاخامية (الأرثوذكسية) كانت تحرم العودة إلى أرض الميعاد دون انتظار للأمر الإلهي بالعودة، إذ إن التصور الحاخامي لقضية العودة أن على اليهودي أن ينتظر في صبر وأناة إلى أن يرسل الإله بالماشيح (المسيح المخلِّص اليهودي) ليقود شعبه إلى صهيون في آخر الأيام، ومن يأخذ الأمر بيده ويمل من الانتظار فإنه يرتكب جريمة "دحيكات هاكتس" أي التعجيل بالنهاية.
ويؤكد كاتب المقال أن الصهاينة الأوائل لم يكونوا متدينين لكنهم كانوا متحمسين بشدة للأساطير اليهودية ومنها استمدوا الأساس للصهيونية. هذه الظاهرة لم تكن مميزة أو مختلفة عما هو دارج في الحركات القومية العلمانية التي مجّدت أبطالا قوميين أسطوريين قدر ما استطاعت. وقد تبنى الصهاينة غير المتدينين قصص التوراة لغرض مماثل، فهم يهدفون لخلق أيديولوجية وأساطير قومية شبه تاريخية صهيونية.
"لقد تكوّن الجانب الكولونيالي للصهيونية عندما تحولت الهجرة إلى فلسطين إلى واقع ملموس. واستوطن الوافدون الجدد على حساب السكان الأصليين، والصهيونية لم تكن فريدة في ذلك، فهي انطلقت من الرأي الذي ساد في أوروبا الإمبريالية في ذلك الوقت والذاهب إلى أنه يمكن الاستيطان في أي مكان خارج أوروبا، ويمكن طرد سكان الأرض الأصليين وإبادتهم ومصادرة أرضهم، فهم -حسب التصور العنصري الغربي- شعوب متخلفة، بل وليسوا من بني البشر".
هذه هي نقطة الانطلاق الحقيقية للحركة الصهيونية. أما ما يسمى "الصهيونية الدينية" فهي لم تقم بأي دور مهم، حتى يونيو 1967. ويقول الكاتب إن محاولة تفسير الانعزالية الصهيونية عن المواطنين العرب وخلق مجتمع منافس لهم في فلسطين، أمر لا يمكن تفسيره بالعودة إلى الدين اليهودي. ثم يضع الكاتب النقط على الحروف، فيقول إن الصهيونية حركة استعمارية استيطانية، فالمؤسسات الصهيونية العلمانية، الاشتراكية وغير الاشتراكية، لم يخطر لها ببال استيعاب الفلسطينيين. ثم يضرب الكاتب مثلا بالصندوق القومي اليهودي الذي منع منذ البداية بيع أراض لغير اليهود. ولم يوافق على إقامة بلدة غير يهودية على أراضيه باعتبارها ملكا للشعب اليهودي، فهل سلك الصندوق ذلك من منطلقات دينية؟ لقد تأسس "الصندوق القومي" من قِبَلِ يهود علمانيين حسب نموذج صناديق أرض مشابه في نهاية القرن التاسع عشر في ألمانيا القيصرية، وكان هدفها التسلط على أراضي الفلاحين البولنديين والاستيلاء عليها، فهدف الصندوق القومي اليهودي لا علاقة له بالدين اليهودي، فهو هدف لكل توسع كولونيالي.
والدافع الأول لتأسيس حركة "أرض إسرائيل الكاملة"، جاء من الجانب اليساري العلماني للمجتمع الإسرائيلي. و"مشروع" الاستيطان في الضفة الغربية هو من بدايته احتلالي واستعلائي والعنصر الديني فيه هامشي. هذا هو واقع الكولونيالية الصهيونية، وهو ليس نابعا إطلاقا من اعتبارات دينية إنما من المنطق الداخلي للكولونيالية التي جاءت للتسلط على الشعب الذي وجد في المكان.
لعل كل هذا يقنع الكثيرين في عالمنا العربي أن إسرائيل ليست دولة يهودية، وإنما دولة استعمارية استيطانية إحلالية، وهذا التصنيف لها سيجعلنا قادرين على رصد سلوكها والتنبؤ به، ويفسر الدعم الأميركي السخي لها. كما أننا نؤكد أنها دولة استعمارية وأننا نحارب ضدها لا لأن المستوطنين الصهاينة يهود وإنما نحارب ضدهم لأنهم محتلون، تماما كما حاربنا ضد ممالك الفرنجة التي يقال لها الممالك الصليبية. وأننا سنحارب ضد أي محتل من أي ملة أو دين، فالقضية هي قضية الاحتلال وليس يهوديته. وفي هذا الإطار لا يمكن أن توصف المقاومة بأنها "إرهاب"، بل تصبح -حسب القانون الدولي- حق بل واجب الشعب المحتل.
وقد يسأل سائل أين موقع البعد الديني هنا؟ أنا من المؤمنين بأنه لا يمكن فصل البعد الديني عن البعد السياسي أو البعد القومي أو البعد النفسي، فما يحرك المرء ليس بعدا واحدا وإنما عدة أبعاد. فالمجاهد الفلسطيني يتحرك دفاعا عن أرضه (وهذا بعد قومي) ويوظف كل ما لديه من قدرات (وهذا بعد سياسي وعسكري) إيماناً منه بالله والوطن (وهذا بعد ديني وسياسي في ذات الوقت) وتعبيرا عن فطرة إنسانية سليمة ترفض الخضوع للمغتصب (بعد نفسي) فالمقاومة تنبع من كل أبعاد الإنسان. والإنسان المسلم لم يأمره دينه بالحرب ضد اليهود باعتبارهم يهودا، وإنما أمره بإقامة العدل في الأرض وفي رد الظالم. فالمقاومة الفلسطينية ليست مقاومة عنصرية وإنما هي مقاومة إنسانية، وهي إنسانية لأنها متمسكة بأهداب الدين الإسلامي، وسواء كانت دولة إسرائيل يهودية أم بوذية أم ملحدة، فنحن نقاومها، باعتبارها احتلالا وظلما وبطشا بأصحاب الأرض. والمقاومة من هذا المنظور تعبر عن أعظم وأنبل ما في الإنسان.