يدّعي الصهاينة انطلاقاً من إصرارهم على وجود هوية يهودية عالمية واحدة، أن يهود العالم يتحدثون بصوت واحد مؤيدين للدولة الصهيونية وسلوكها، ولكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. وفى مقال بقلم "يئير شيلغ" (هآرتس 18 يوليو2007) بعنوان "يهود الولايات المتحدة يواجهون معضلة الحسم بين هويتهم اليهودية المتميزة واندماجهم في المجتمع الأميركي"، جاء فيه أنه قبل نحو من أربع سنوات طرح اقتراح يمكن أن يوصف بأنه ثوري، مفاده القيام بحملة إعلام تربوية مجددة لمقاومة الزواج المختلط، بعد أن ثبت أن قلة فقط من أولاد هذا الشكل من الزواج يحصلون على تربية يهودية ذات شأن. وقد رفض قادة يهود الولايات المتحدة الاقتراح رفضاً باتاً محتجين بحجتين: الأولى أن الدعوة المضادة للزواج المختلط قد تبدو عنصرية، والثانية كيف يمكن الدعوة لمقاومة الزواج المختلط في حين يجلس في الكنس والجماعات كثيرون جداً متزوجون هذا النوع من الزواج، وفيهم أيضاً كثيرون من قادة يهود الولايات المتحدة أنفسهم؟
وقد طالب المقال بضرورة الاعتراف علناً بوجود توتر بين هاتين الإرادتين: إرادة الدولة الصهيونية وإرادة يهود العالم. "لا يوجد تناقض بل يوجد توتر بيقين. من الممكن، بل من الحيوي، أن نقيم هاتين الغايتين في الوقت نفسه، لكن يجب أن نعلم أنه توجد أيضاً مناطق صدام بينهما، وخاصة في مجال الزواج، وأكثر من ذلك أيضاً في مجال التربية. يهود الولايات المتحدة هم المثال الأبرز على هذا التوتر: فأبناء من طُوردوا كيهود في شرق أوروبا، حظوا في الولايات المتحدة باندماج تام كثيراً، إلى حد أن المؤرخ البريطاني "بول جونسون" عرّف مكانتهم الحالية بأنها تطور أكثر دراماتيكية في إطار التاريخ اليهودي من إقامة دولة إسرائيل". أما المؤرخ الصهيوني "هوارد ساخر"، ففي كتابه "الدياسبورا" لم يعتبر الولايات المتحدة وكندا جزءاً من المنفى، وإنما اعتبرهما وطناً قومياً لليهود المقيمين فيهما، أي أن الدولة الصهيونية ليست وطنهم القومي.
وإلغاء المبادرة الإعلامية المقاومة للزواج المختلط مثالٌ واحد فقط على التناقض بين يهود العالم وإسرائيل. ولكن هناك مثالاً آخر هو التبرعات: فأكثر اليهود الأثرياء في الولايات المتحدة يتبرعون من أجل غايات أميركية عامة أكثر مما يتبرعون من أجل غايات يهودية. وإلى ذلك تعارض القيادة اليهودية بقوة الحصول على دعم حكومي للتربية اليهودية، رغم أنه من الواضح أن التربية هي الوسيلة الأهم شأناً في مقاومة الذوبان، وذلك خوفاً من أن يمس الأمر الفصل التام الموجود في الولايات المتحدة بين الدين والدولة. إن القيادة اليهودية تخاف جداً من كل نغمة اتهام بـالإخلاص المزدوج ، إلى حد أنهم امتنعوا في مؤتمر الإيباك في السنة الماضية عن إنشاد نشيد هتكفا، بعد أن اتهم اثنان من مسؤولي المنظمة الكبار بالتجسس لصالح إسرائيل.
من أمثلة التناقض بين يهود العالم وإسرائيل أن معظم اليهود الأثرياء في الولايات المتحدة يتبرعون من أجل غايات أميركية أكثر مما يتبرعون من أجل غايات يهودية.
وقد نشرت صحيفة "الجارديان" البريطانية (13 يوليو 2007) مقالاً بعنوان "يهود إيران يرفضون الإغراءات المالية التي تقدمها إسرائيل ليهاجروا لإسرائيل" (بقلم روبرت تيت مراسل الجارديان في طهران). جاء في المقال أن الدولة الصهيونية عرضت على يهود إيران حوافز مالية تقدر بين 5 آلاف و30 ألف جنيه إسترليني للفرد حتى تبدأ هجرة جماعية للجماعة اليهودية في إيران البالغ عدد أعضائها 25 ألف فرد. ولكن جمعية يهود إيران رفضت هذا العرض فقالت: إن يهود إيران يعتزون بهويتهم الإيرانية، وهي هوية ليست معروضة للبيع، ولذا فإن هذه الإغراءات السياسية غير الناضجة لن تنجح في تحقيق هدفها، أي محو الهوية الإيرانية. وقد قال "موريس موتاميد"، وهو يهودي إيراني وعضو بالبرلمان الإيراني: إن ما تقدمه إسرائيل هو إهانة، كما أنه يشكل ضغطاً على يهود إيران أن يثبتوا ولاءهم لوطنهم، وهي تفترض أن يهود إيران يمكن إغواؤهم بالمال ليهاجروا. إن يهود إيران كانوا دائماً أحراراً في أن يهاجروا أو لا يهاجروا، وثلاثة أرباعهم فعلوا ذلك بعد الثورة، ولكن 70% منهم ذهبوا إلى الولايات المتحدة.
وكثيراً ما أحار في موقف "اليساريين" الصهاينة ومن سذاجتهم البالغة، ففي مقال بعنوان "اليساريون اليهود وصراع اليهودية" صرحت "سيسيل سواركي" بأنها صُدمت عندما رأت نجمة داوود مرسومة على جدران أحد المتاجر الفلسطينية في الخليل وقد كُتب عليها Gas the Arabs. وقد أضافت قائلة كانت الصدمة شديدة لأنني أدين بالولاء لإسرائيل (ويبدو أنها تتصور أن إسرائيل ليست دولة عنصرية). إن أسرة "سيسيل" كلها تدين بالولاء لإسرائيل بقوة. فجدُّها كان يورد أسلحة لإسرائيل عام 1948، وعمُّها كان يدعم United Jewish Appeal، لذا فإنها تشعر بالأسى لما تراه الآن في إسرائيل حيث يوجد عدد كبير من يهود أميركا الذين فقدوا الكثير من أقاربهم في الهولوكوست أو المذابح الجماعية يكنون العداء لمجموعة مختلفة العرق عنهم. ويقول أحد مؤيدي السلام إنهم "ضد الصهيونية"، لكن هذا لا يعني أنهم يؤيدون "حماس"، لكنهم لا يريدون أن يتمتع اليهود بحقوق يُحرم منها الآخرون. ويقول "ديفيد باسيور" أحد مؤيدي السلام "لو أطلقوا على أنفسهم دولة اليهود، وأنا يهودي، فإن كل ما يفعلونه يمثلني".
ويقول مؤيدو السلام إن نشاطهم هذا قد سبب لهم بعض الخلاف مع أسرهم والمجتمع اليهودي ككل. ويقول الحاخام اليهودي "لين جوتليب"، والذي شارك في تأسيس حركة للمطالبة بالسلام بين المسلمين واليهود: "كما ترون أنا لست مقبولاً هنا". وتقول "سوراسكي إنها تتلقى يومياً العشرات من الرسائل عبر البريد الالكتروني من يهود يعبرون عن مدى كراهيتهم لها ويخبرونها بأنها يجب أن تُحرق في الأفران. والباحثة "جيس وينبرج" البالغة من العمر 36 عاماً، والتي ذهبت منذ عامين إلى إسرائيل من أجل الحصول على الدكتوراه، أُطلق عليها معادية للسامية بسبب أنها لا تقبل فكرة أن السلام لن يتحقق إلا بإقامة دولة اليهود. لكن بالرغم من كل هذا، فإن عدد مؤيدي السلام آخذ في الازدياد. وتقول "سوراسكي" إن كل أسرة في إسرائيل بها فرد من مؤيدي السلام، وإن ثورتهم لن تخمد أبداً مادام الحوار مستمراً. وتقول: "إن كل ما نريده هو السلام والمساواة للجميع". وهنا يمكن أن نسأل: هل هذا صراع هوية أم أنها مسألة أخلاقية بكل بساطة؟ هل تتصور هذه اليسارية "المخلصة" أن هوية إسرائيل كان من الممكن أن تكون يهودية وبريئة من دم الآخرين في الوقت ذاته. كتب "هرتزل" مؤسس الحركة الصهيونية خطاباً لصديقه عالم الاجتماع النمساوي "جو ميلوفيتش"، يخبره فيه عن مشروعه الصهيوني، وكيف أنه سيتحقق بطريقة سلمية. فرد عليه "جو ميلوفيتش" قائلاً: أتريد أن تُؤسس دولة دون عنف وإرهاب؟! والله أعلم.