في عام 1996، كُشف النقاب عن أن المؤسسات الطبية في الكيان الصهيوني رفضت استخدام كميات الدم التي تبرع بها المهاجرون من إثيوبيا، والذين يُطلق عليهم اسم "يهود الفلاشا"، بدعوى أنها قد تكون ملوثة بفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) ومن ثم فقد تؤدي إلى نقل المرض إلى سكان المستوطن الصهيوني (صحيفة معاريف، 28 يناير 1996). وإذا كانت المؤسسات الطبية قد غلفت رفضها بذرائع "علمية"، فقد كانت هناك أصوات أكثر جرأة في التعبير عن السبب الحقيقي لهذا الرفض، ألا وهو التشكك في "نقاء" دم أولئك الإثيوبيين والحرص على عدم اختلاط دمائهم بدماء غيرهم من أبناء الجماعات اليهودية التي يُنظر إليها باعتبارها الأكثر رقياً ونقاءً، ("اليهود الشرقيون في إسرائيل"، برنامج تحت المجهر، قناة الجزيرة، 3 يناير 2001).
وقد أدى الكشف عن هذه الواقعة إلى موجة من الاحتجاجات، حيث نظم القادمون من إثيوبيا مظاهرة أمام مكتب رئيس الوزراء، شارك فيها نحو عشرة آلاف إثيوبي، وكان شعارها الأساسي هو "دمنا مثل دمكم". وفيما بعد، تطورت المظاهرة إلى اشتباكات دامية بين المتظاهرين وأفراد الشرطة، سقط خلالها عشرات الجرحى من الجانبين، كما حطم المتظاهرون عشرات السيارات الخاصة بالعاملين في رئاسة الوزراء. وحاولت الحكومة الصهيونية احتواء الموقف، فشكلت لجنة للتحقيق في القضية، ترأسها "إسحق نافون"، الرئيس الأسبق للكيان الصهيوني، ولكن اللجنة انتهت إلى أنه ليس هناك ما يلزم المؤسسات الطبية بقبول الدم من الإثيوبيين. ولا يزال هذا الحظر المفروض على دم "الأفارقة"، باستثناء القادمين من شمال أفريقيا، سارياً حتى اليوم (فراس خطيب، صحيفة الأخبار، بيروت، 14 يوليو 2007).
ولم تكن هذه الواقعة سوى واحدة من الأمثلة العديدة على الطابع العنصري للكيان الصهيوني، وعلى عجزه عن دمج شراذم الجماعات المتباينة عرقياً وثقافياً في نسيج اجتماعي يتسم بقدر من التماسك. فرغم مرور أكثر من عقدين من الزمان على بداية وفود المهاجرين الإثيوبيين إلى الكيان الصهيوني في نهاية السبعينات من القرن العشرين، ورغم الجهود الطائلة التي بذلتها الدولة الصهيونية لاستقدامهم واستيعابهم بشكل منظم منذ عام 1984، فلا يزال أولئك الإثيوبيون يشعرون بأنهم غرباء ومنبوذون، ولا يزالون يعانون من تدني أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن التهميش السياسي.
كل التجمعات الاستيطانية التي قامت على أساس عنصري، كما في جنوب أفريقيا، آلت إلى الزوال، وليس هناك ما يبرر استثناء الكيان الصهيوني من هذا المصير•
وقد بدأت الحملة العنصرية الصريحة ضد الإثيوبيين حتى قبل قدومهم إلى الكيان الصهيوني، حيث شككت المؤسسة الدينية الإسرائيلية، ممثلةً في الحاخامية الكبرى، في "يهودية" أولئك الإثيوبيين ورفضت الاعتراف بهم كـ"يهود شرعيين"، وهو ما يعني حرمانهم من كثير من الحقوق التي يتمتع بها سواهم من الجماعات اليهودية الأخرى في مجالات الزواج وأداء الصلوات والطقوس الدينية في دور العبادة اليهودية. واستمر هذا الرفض حتى بعد وفود الأفواج الأولى من المهاجرين، إلى أن أصدر الحاخام عوفاديا يوسف، الزعيم الروحي لحركة "شاس"، فتوى تجيز اعتبارهم يهوداً بشرط أن يخضعوا لطقوس "إعادة التهويد"، بما في ذلك التأكد من أن الذكور منهم قد أُجريت لهم عملية الختان.
وبالإضافة إلى هذا الرفض من المؤسسة الدينية، فقد واجه المهاجرون الإثيوبيون- ومازالوا يواجهون- رفضاً أشد حدةً على المستوى الاجتماعي في جميع مجالات الحياة. فعلى سبيل المثال، يرفض معظم تلاميذ المدارس مجرد الجلوس إلى جانب زملائهم الإثيوبيين لنفورهم من لون بشرتهم وكذلك من لغتهم وعاداتهم. كما يحجم كثير من أصحاب الأعمال عن تشغيل الإثيوبيين في الوظائف المتميزة، حتى وإن كانت لديهم المؤهلات اللازمة، ومن ثم يتركز معظم العاملين الإثيوبيين في الوظائف الخدمية المتدنية. ويشيع في الأوساط الاجتماعية استخدام كلمة "كوشي"، التي تعني "العبد الأسود"، في الإشارة إلى الإثيوبيين، بما ينطوي عليه ذلك من احتقار وكراهية.
ويبلغ عدد المنحدرين من أصول إثيوبية في الكيان الصهيوني حالياً نحو 105 آلاف نسمة، منهم نحو 27 ألفاً وُلدوا في الكيان الصهيوني. ويعيش السواد الأعظم من هؤلاء الإثيوبيين في أحياء منعزلة فقيرة على أطراف المدن بمنأى تام تقريباً عن التجمعات اليهودية الأخرى، وتشير دراسة أعدتها الوكالة اليهودية في عام 2001 إلى عجز أولئك المهاجرين عن الاندماج في التجمع الاستيطاني الصهيوني، فنحو 45% منهم لا يستطيعون إجراء محادثة بسيطة باللغة العبرية، في حين أن حوالي 65 %منهم لا يجيدون الكتابة باللغة العبرية، بينما يعجز قرابة 35 % من العائلات عن توفير المتطلبات اللازمة لأبنائها الدارسين بالمدارس (صالح النعامي، "الفلاشا بعد 17 سنةً في إسرائيل"، موقع إسلام أون لاين، 28 مايو 2001).
وتتصاعد معدلات الجريمة بشكل كبير في أوساط الشبان الإثيوبيين المقيمين في الكيان الصهيوني. فبالرغم من أن نسبة الإثيوبيين لا تتجاوز 1.3 % من مجموع الشباب في المستوطن الصهيوني، فإنهم يشكلون نحو 2.8 % من المتهمين في القضايا الجنائية التي باشرت الشرطة التحقيق فيها. وقد أصبحت الأحياء التي يسكنها المهاجرون من إثيوبيا مناطق خطرة، نظراً لسيطرة "عصابات الإثيوبيين" عليها (فراس خطيب، "مهاجرون إلى الجريمة"، صحيفة الأخبار، بيروت، 18 يوليو 2007).
ويرجع جانب كبير من هذا النزوع الإجرامي إلى شعور المهاجرين الإثيوبيين بالإحباط والعجز عن الاندماج في مجتمعهم الجديد. فقد اكتشفوا أن وعود الحياة المترفة التي قُدمت إليهم من أجل اجتذابهم للإقامة في "أرض الوعد" لم تكن أكثر من عبارات جوفاء، وسرعان ما تبين لهم عمق الهوة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي تفصل بينهم والجماعات اليهودية الأخرى، وخاصة تلك الجماعات ذات الأصول الغربية، وما تكنه هذه الجماعات لهم من ازدراء باعتبارهم في مرتبة أدنى.
ويؤكد "إديسو ماسالا"، رئيس "جمعية اليهود القادمين لإسرائيل من إثيوبيا" وأول إثيوبي ينضم إلى "حزب العمل"، أن أبناء "الفلاشا" "يتعرضون لمسلسل تدمير نفسي متواصل بسبب ممارسات التمييز"، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الانتحار في أوساطهم، حيث شهد عام 2000 وحده عشر حالات انتحار، وتبلغ معدلات الانتحار في أوساط الشبان الإثيوبيين نحو سبعة أضعاف مثيلتها في أوساط الشباب الآخرين في الكيان الصهيوني بصفة عامة. وقد كان "ماسالا" نفسه هدفاً لعملية تصفية سياسية تنطوي على تمييز صريح، حيث استبعدته قيادة حزب العمل في عام 1999 من قائمة الحزب لانتخابات الكنيست لتفسح المجال لوضع ممثلة اليهود الروس ضمن القائمة. ولم يكن هذا الاستبعاد مجرد إجراء اقتضته الضرورات الانتخابية أو اعتبارات المكسب والخسارة، إذ صاحبته حملة مكثفة تزعمها "إيهود باراك"، زعيم حزب العمل آنذاك، ووصلت إلى حد التعريض ببشرة "ماسالا" السوداء والتشكيك في ولاء يهود إثيوبيا بوجه عام ("اليهود الشرقيون في إسرائيل"، برنامج تحت المجهر، قناة الجزيرة، 3 يناير 2001).
ولا شك أن هذا الجوهر العنصري الجلي للدولة الصهيونية يمثل أحد العناصر التي تقوض بنية هذه الدولة وتفقدها أية شرعية مزعومة بل وتهدد وجودها على المدى البعيد، وذلك على الرغم مما حققته هذه الدولة من "نجاحات" على الصعيدين العسكري والتوسعي. فهناك أولاً ما يثيره هذا النهج العنصري من تناقضات وصراعات محتدمة داخل الكيان الصهيوني، وهي تناقضات لا يمكن للدولة الصهيونية بحكم طبيعتها وعناصر تكوينها ووظيفتها أن تتغلب عليها جذرياً، حتى وإن نجحت في التخفيف من حدتها أو التكيف معها لفترة ما. وهناك ثانياً الخبرة التاريخية التي تؤكد أن كل التجمعات الاستيطانية التي قامت على أساس عنصري، مثل التجمع الاستيطاني في جنوب أفريقيا، قد آلت إلى الزوال، وليس هناك ما يبرر استثناء الكيان الصهيوني من هذا المصير. والله أعلم.