تصنيف الدولة الصهيونية على أنها دولة يهودية هو خطأ تصنيفي جعل من الصعب علينا رصد ما يدور داخل هذه الدولة والتنبؤ بسلوكها. فالدولة الصهيونية رغم كل ديباجاتها اليهودية (أرض الميعاد- الشعب المختار- مركزية القدس... إلخ) هي دولة استعمارية استيطانية إحلالية تؤمن بموازين القوى وبأن القوة هي المعيار الوحيد والآلية الوحيدة لحسم الخلافات فهي تنتمي لهذا النمط من الدول العلمانية التي تشكل الداروينية الاجتماعية مرجعيتها النهائية.
ولكن غياب أية معايير أخلاقية أو إنسانية أو دينية يسبب انتشار النسبية الأخلاقية واختلاط المعايير. والدولة الصهيونية لا تشكل أي استثناء للقاعدة. واختلاط المعايير يتضح في قضية مثل الإباحية. والمجتمع الصهيوني مجتمع متسيب من الناحية الأخلاقية ويعود هذا بغير شك إلى أنه مجتمع مستوطنين مهاجرين. ومثل هذه المجتمعات تتسم بالتفكك والتسيب الخلقي لأسباب كثيرة ليس هنا مجال حصرها. ولعل اعتماد المجتمع الإسرائيلي على السياحة (وفي تصوري أن السائح باعتباره شخصا مقتلعا باحثا عن المتعة العابرة لقاء أجر، عنصر مدمر من الناحية الأخلاقية والاجتماعية) ساهم هو الآخر في زيادة التفكك والتسيب. ثم كان للسياسات الاقتصادية التي تبناها الليكود في أوائل الثمانينيات (كجزء من حملته الانتخابية) والتي تشبه من بعض الوجوه سياسات الانفتاح في مصر -بتشجيعه الاستيراد الاستهلاكي- أعمق الأثر في زيادة حدة السعار الاستهلاكي وما يصحبه من توجهات اجتماعية ضارة. مهما كان السبب فالمحصلة النهائية هي أن المجتمع الإسرائيلي – كما يقول أمنون روبنشتاين في كتابه العودة للحلم الصهيوني- أصبح من أكثر المجتمعات انحلالا في العالم، ولا يوجد أي نوع من أنواع الانحرافات الجنسية إلا ويُمارَس فيه.
وبالفعل أصبحت تل أبيب مدينة تشبه أمستردام من بعض الوجوه، في انتشار المخدرات فيها والشذوذ الجنسي، وتقام كل عام فيها مسيرة الشذاذ. وقد انتقلت هذه المسيرة منذ سنتين إلى القدس. وكما اشتكى أحد الحاخامات: "في الماضي كان هناك تقسيم للعمل، تل أبيب كانت عاصمة العلمانيين، والقدس عاصمة المتدينين. أما الآن فقد اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد هناك فارق بين الأولى والثانية. فمحلات المجلات الإباحية والأشياء الجنسية توجد الآن في كل مكان في القدس وعلى مقربة من حائط المبكى". وكان أحد ناشري المجلات الإباحية الأميركية يريد أن ينشر طبعة عبرية من مجلته، فرحبت به المؤسسة العلمانية، واصطحبوه إلى حائط المبكى، حيث التقطت له بعض الصور، وكأن حائط المبكى مجرد مكان تذكاري أو حتى صالة ديسكو (وحائط المبكى بالعبرية هو "كوتيل"، ويطلق عليه العلمانيون كلمة "ديسكوتيل").
إن سيادة النسبية الأخلاقية وغياب المعايير يجعل من الصعب على المرء أن يقرر ما هو الصالح وما هو الطالح، وما هو الإنساني وما هو الشاذ غير الإنساني، وما هو الفعل العادل وما هو الفعل الظالم، هذا الوضع يصب تماما في ظاهرة الشذوذ الجنسي.
ومن المعروف أن العهد القديم يحرم الشذوذ الجنسي بين الذكور، وتبلغ عقوبة هذه الجريمة حد الإعدام. أما التلمود، فهو يُحرِّم مثل هذه العلاقة بين كل من الذكور والإناث. ويبدو أن سلوك أعضاء الجماعات اليهودية عبر التاريخ البشري كان يتسم بالإحجام عن الشذوذ الجنسي. ومما يجدر ذكره أن المواجهة بين اليهودية والهيلينية في القرون الأخيرة قبل الميلاد، أدت إلى تأغرق (تحولهم إلى يونانيين) أعداد كبيرة من أعضاء النخبة اليهودية في مصر وفلسطين، ورغم القبول الواضح في التراث الهيليني للشذوذ الجنسي، فإن أعضاء الجماعات اليهودية لم ينغمسوا في مثل هذه الممارسة. ويبدو أن بعض الأدباء السفارد، متأثرين بتقاليد الشعر العربي والتغزل بالغلمان، كتبوا عن حب أفراد من الجنس نفسه.
ولكن تغيَّر الوضع تماماً في العصر الحديث مع تصاعد معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية، فرئيس أول جماعة عالمية للشواذ جنسياً من الذكور هو ماجنوس هيرشفيلد (1868 ـ 1935)، ومساعده كورت هيلر (1885 ـ 1972)، وكلاهما كان ألمانياً يهودياً (بل كان هيلر يزعم أنه من نسل الحاخام هليل). وكان هيلر هو أول من طالب باعتبار الشواذ جنسياً أقلية لابد من حماية حقوقها.
ولكن حتى لا تُفسَّر هذه المعلومات تفسيراً عنصرياً يبسط الأمور تبسيطاً مخلاًّ يجعل اليهود "مسؤولين" عن الشذوذ الجنسي، لابد أن نشير إلى أن قبول الشذوذ الجنسي بشكل متزايد وتطبيعه إحدى سمات المجتمعات العلمانية المتقدمة، كما أنه نتيجة حتمية لغياب اليقين المعرفي والمطلقية الأخلاقية وغياب المركز. وإذا كان هناك وجود ملحوظ لليهود في الحركات الداعية لتطبيع الشذوذ الجنسي، فهذا أمر نابع من أن أعضاء الأقليات (الذين يوجدون في الهامش)، وخصوصاً أولئك الذين يتحولون إلى جماعات وظيفية لديهم استعداد أكبر من استعداد أعضاء الأغلبية لارتياد آفاق جديدة سواء في عالم الاستثمار أو في عالم الأفكار والسلوك. ومهما يكن الأمر، فإن حركة الشذوذ الجنسي في العالم الغربي حقَّقت تقـدماً ملحوظاً حتى أن قـوانين معـظم بلاد أوروبا قد تغيَّرت، فهي تسمح بالعلاقات الجنسية الشاذة الخاصة بين بالغين يدركون ما يفعلونه ويقبلونه، وبدأت تَصدُر تشريعات تعترف بعلاقة الشواذ جنسياً كزواج شرعي يعطي لطرفيه حقوق المتزوجين كافة من معاش حكومي إلى علاوات إضافية بل وحق تبنِّي الأطفال! كما أن كثيراً من الكنائس المسيحية أصبحت تقبل العلاقة الشاذة جنسياً بل وتُؤسَّس الآن كنائس للشواذ جنسياً، ويُرسَّم الشواذ جنسياً قساوسة ووعاظاً. وقد بدأت المؤسسات الدينية اليهودية تلحق بالركب، فاليهودية الإصلاحية والمحافظة لا تُحرِّمان الآن الشذوذ الجنسي. وقد أُسِّست أيضاً معابد يهودية للشواذ جنسياً، ورُسِّم حاخامات شواذ جنسياً من الجنسين. وكما جاء في إحدى الدراسات، فإن المعابد اليهودية الخاصة بالشواذ جنسياً تكافح من أجل الحصول على الفهم والقبول من بيت إسرائيل (الشعب اليهودي) رغم أنف التحريمات الواردة في التوراة وتقاليد اليهودية الحاخامية التي استبعدتهم من الحياة الدينية للجماعة. وهذا دليل آخر على أن الجماعات اليهودية هي، في نهاية الأمر، ثمرة التغيرات الحضارية والاجتماعية التي تقع للمجتمعات التي يعيشون في كنفها، ومن السخف بمكان التحدث هنا عن "تاريخ يهودي مستقل" أو عن "مسؤولية اليهود عن الشر".
والقانون العثماني الذي طبقته حكومة الانتداب، ومن بعدها الدولة الصهيونية، يُحرِّم العلاقات الجنسية الشاذة. ومع هذا، كانت السلطات التنفيذية الصهيونية تنظر للممارسات الشاذة بكثير من التسامح، ولذا لم يُقدَّم أحد قط للمحاكمة بتهمة الممارسة الجنسية الشاذة. وفي عام 1988، أصدر الكنيست قانوناً بإلغاء القانون الذي يُجرِّم العلاقات الجنسية الشاذة (رغم معارضة اليهود الأرثوذكس). وتوجد في إسرائيل جماعة تُسمَّى جماعة الدفاع عن الحقوق الشخصية أُسِّست عام 1975. وبعد عام 1988، ظهرت مجلات للشواذ جنسياً في إسرائيل باللغتين العبرية والإنجليزية. وفي يونيو 1991، عُقد في تل أبيب المؤتمر الدولي الثالث للشواذ جنسياً من الذكور والإناث والمخنثين.
والله أعلم