أوفدت الإدارة الأميركية الأسبوع الماضي مساعدة وزيرة الخارجية إلى بعض بلدان الشرق الأوسط بمهمة لافتة هي العمل على تحسين صورة الولايات المتحدة بنظر شعوب المنطقة. وكانت الإدارة نفسها قد أسست قبل سنوات عدة محطات إذاعية باسم إذاعة (سوا) في أكثر من بلد عربي، كما أسست قناة تلفزيونية باسم (الحرة) للهدف نفسه.
وتتمثل مهمة وسائل الإعلام هذه في النشاط الفعال لشرح وجهات النظر الأميركية لشعوب المنطقة وشن حملات إعلامية متواصلة واستخدام أفضل أساليب التقنية الإعلامية وعلوم الاتصال من أجل تحقيق هذا الهدف أي كسب الرأي العام العربي، ولم تكتف الإدارة الأميركية بتوظيف وسائل الإعلام فقامت على التوازي في الفترة الأخيرة بنشاط دبلوماسي لإقناع الشعب العربي وشعوب المنطقة الأخرى أن لأميركا وجهاً آخر غير الذي تراه هذه الشعوب وأنه وجه حسن ولكن الناس لا يبصرون.
من حق الإدارة الأميركية استخدام وسائل الإعلام لشرح سياساتها وإقناع الناس بهذه السياسات في عصر أصبح فيه الإعلام قادراً على تشكيل الرأي العام وتغيير وعي الأفراد بل وتزويره، ونلاحظ للوهلة الأولى أن قرار الإدارة الأخير يؤكد من جهة أولى اقتناع هذه الإدارة ويقينها أن صورتها ليست على ما يرام في نظر شعوب الشرق الأوسط
كما يؤكد من جهة ثانية أن الإدارة مازالت ـ لسوء الحظ ـ تجهل المنطقة ومفاهيم شعوبها وسلم قيمها وتقاليدها وغيرها من القضايا المتعلقة بخصوصيتها وبتاريخها ومصالحها وآمالها وحقوقها الحالية والتاريخية. ويشير إلى قناعة إدارة الرئيس بوش بأن زيارة دبلوماسية رفيعة المستوى إلى دول المنطقة ومقابلة مسؤوليها كفيلة بتحسين صورة أميركا لدى شعوبها وحكامها،وكأن الصورة تتغير جراء علاقات عامة وتحسنها زيارة أو خطاب أو رسالة موجهة إلى الناس، أو التأكيد على حسن النوايا، مع أن هذه الصورة تشكلت نتيجة تراكم تاريخي لأحداث وسياسات أسست ثقافة لدى الرأي العام ودخلت في عمق هذه الثقافة، ونتجت عن اعتقاد الناس أن الولايات المتحدة لا تهتم بمصالحهم وحقوقهم السياسية والثقافية والاجتماعية.
لقد كانت سمعة الولايات المتحدة حسنة جداً في مطلع القرن الماضي لدى بلدان المنطقة دون بذل نشاط إعلامي أو علاقات عامة، وكانت شعوب هذه البلدان تعتبر الولايات المتحدة نصيراً للحريات وحق تقرير المصير والاستقلال وليس لها مطامع خارج القارة الأميركية
وأنها حكم عادل في خلافات الدول وتجاه سياسات البلدان الأخرى قريبة كانت أم بعيدة وحليف للشعوب المستعمرة وعدوة للمستعمرين، خاصة بعد أن أعلن الرئيس ويلسون مبادئه الأربعة عشر الشهيرة عام 1918 التي نادى من خلالها بتحرير الشعوب وبحق تقرير المصير وبتشكيل عصبة الأمم لتضمن تنفيذ هذه السياسة وانتقد السياسة الكولونيالية الأوروبية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، ووجه سياسة إدارته لتحقيق هذه الأهداف.
ولأن صورة الولايات المتحدة كانت حسنة فقد طالبت شعوب بلاد الشام مثلاً بالوصاية الأميركية عندما شاورتها اللجنة الدولية بأن تختار الوصاية (الانتداب) البريطاني أو الفرنسي عليها بعد اتفاقية سايكس بيكو يوم كان لابد من الوصاية مفترضة أن الأوروبيين مستعمرون (كولونياليون) وأن الأميركيين ليسوا كذلك، واهتدت هذه الشعوب بمبادئ ويلسون، وفي الوقت نفسه كانت تقارير ومقترحات اللجان الأميركية التي أرسلت لفلسطين في ثلاثينات القرن الماضي أكثر عدلاً وموضوعية من أية لجان أخرى، أو على الأقل اقرب إلى الحيادية حتى بداية الأربعينات.
بدأت صورة السياسة الأميركية تسوء منذ أن أصبح النفوذ الصهيوني فيها أكثر تأثيراً، حيث أخذت الإدارات المتتابعة في مطلع أربعينات القرن الماضي تدعم الحركة الصهيونية وتعمل لإقامة دولة يهودية في فلسطين، وتكثف التدخل الأميركي لدى منظمة الأمم المتحدة بعد قيامها عام 1945 لصالح قيام الدولة اليهودية على حساب الشعب الفلسطيني،
وزاد من ضغوطه على المستعمر البريطاني ليتساهل بقدوم الهجرة اليهودية ثم وافقت السياسة الأميركية على مشروع التقسيم وضغطت على دول عديدة للموافقة عليه وأخيراً قبلت الانسحاب البريطاني المتسرع من فلسطين بعد إعلان الحركة الصهيونية قيام إسرائيل من طرف واحد، واعترفت الإدارة الأميركية بدولة إسرائيل بعد ساعة من إعلانها، دون أن تأبه لا بقرار التقسيم ولا بالمواقف العربية. ولا بمصالح شعب فلسطين.
ومع ذلك ورغم هذا التحيز كله بقيت نظرة الشعب العربي مترددة ولا تعتبر السياسة الأميركية شديدة الرداءة، إلى أن أعلن الرئيس أيزنهاور في خمسينات القرن الماضي مشروعه الذي سماه (سد الفراغ في الشرق الأوسط) أي إحلال الوجود والنفوذ الأميركي في المنطقة محل النفوذ الفرنسي والبريطاني،
فشعر العرب أن السياسة الأميركية تريد منهم استبدال مستعمر بآخر وأن يقعوا في فخها إذا تخلصوا من حلف بغداد، إلا انهم مع ذلك رحبوا من جديد بالضغوط الأميركية على البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين للإنسحاب من الأراضي التي احتلوها نتيجة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ولقيت ضغوطهم استحسانا من العرب،
ولكن ما لبثت السياسة الأميركية أن انتكست وولغت في تأييد إسرائيل بدون تحفظ من جهة وزادت ضغوطها للتأثير على حكومات المنطقة وعلى مستقبلها من جهة أخرى ومازالت هذه السياسة قائمة حتى الآن، وهذا ما أساء لها ولصورة أميركا لدى الشعوب العربية إساءة بالغة وبحق.
ولاحظ العرب أن الولايات المتحدة تؤيد إسرائيل من دون تحفظ ولا تحترم مصالحهم القومية وزاد الأمر سوءاً حربها على العراق وتدخلها في شؤون بلدانهم الداخلية وفي سياساتها ولعل هذا التاريخ الطويل من السياسة الأميركية المناوئة للعرب كان سبباً في سوء صورتها التي ساءت في عمق الثقافة العربية المعاصرة لدى الأفراد أو الرأي العام، ولم تعد تكفي لا الإذاعات ولا الأقنية التلفزيونية ولا حملات العلاقات العامة في تغيير هذه الصورة أو تحسينها.