قال المسرحي السوري المرحوم سعد الله ونوس في مسرحيته (الاغتصاب) وعلى لسان أحد أبطالها (إما نحن وإما هم) وكان يعني العرب والإسرائيليين ويؤكد أن هذه البلاد إما أن تكون للعرب وإما أن يهيمن عليها الإسرائيليون.
وقد لاقت تلك المسرحية عند عرضها انتقاداً شديداً من طرفين: الطرف الأول انتقدها بسبب وجود إسرائيليين بين أبطالها يعملون للسلام ويرفضون الصهيونية من منطلق أن هؤلاء لا وجود لهم ـ حسب رأي هذا الطرف ـ
وبالتالي اعتبر المسرحية تطبيعية، والطرف الثاني هو ذاك الذي يفترض أن المسرحية خيالية ووحيدة الجانب ولا ترى الواقع، لأنها تطرح حلاً واحداً للصراع يقول باستحالة التعايش بين الطرفين إذ لابد أن ينتصر أحدهما على الآخر انتصاراً ساحقاً في نهاية المطاف.
إن هدف استعادة فلسطين (من النهر إلى البحر) ليس هدفاً طارئاً فقد كان الشعار السائد لدى حركة التحرر العربية بمعظم فصائلها منذ النكبة وحتى هزيمة يونيو 1967 وراهنت هذه الفصائل (التي تولت الحكم منها أو التي بقيت خارجه) على تحقيق هذا الشعار دون أن تضع أية خطة لتحقيقه أو برنامجاً للوصول إليه،
ونتذكر في هذا المجال تصريح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1964 عندما قال (ليس لدي خطة لتحرير فلسطين) ولم يكن عدوان يونيو 1967 قد حصل في ذلك الوقت ولم تكن إسرائيل تحتل سوى ما احتلته عام 1948 وهذا يعني أن فلسطين المراد تحريرها هي ما احتل في ذلك العام أي ما يسمى الآن (إسرائيل).
احتلت إسرائيل نتيجة عدوان يونيو 1967 أراضي جديدة (ما تبقى من فلسطين التاريخية والجولان السوري وسيناء) وأصبح التحرير يعني ـ لدى معظم العرب ـ تحرير الأراضي المحتلة في ذلك العدوان بدليل قبول قرار مجلس الأمن (242) من جميع الدول العربية،
وبدليل الاتفاقات التي عقدت لاحقاً (اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن وأوسلو مع منظمة التحرير) ومطالبة سوريا باستعادة الجولان بحدودها التي كانت قائمة حسب اتفاقيات الهدنة (وهو ما تستكثره إسرائيل)
وبقيت بعض المنظمات الفلسطينية والتيارات السياسية العربية تطالب بالتحرير من (البحر إلى النهر) وقد تخلت معظمها عن هذه المطالب، وحتى موقف منظمة حماس بقي ملتبساً وجوهره تأجيل الحل النهائي من خلال هدنة طويلة الأمد.
جدد مؤتمر دمشق للمنظمات الفلسطينية التي شاركت فيه (باستثناء فتح والجبهتين الديمقراطية والشعبية) والذي أنهى أعماله الأسبوع الماضي مطلب تحرير كامل أراضي فلسطين التاريخية، بل وأكد أن مطلب التحرير هو (من رأس الناقورة في لبنان حتى رفح في جنوب فلسطين) أي من البحر إلى النهر دون التباس،
ومن خلال ما تسرب من أخبار المناقشات الجانبية قيل إن ذلك كان استجابة لمطلب حركة الجهاد الإسلامي التي هددت بالانسحاب إذا تم التخلي عن هذا المطلب، وبدا لمعظم المراقبين أن هذا الموقف هو أشد (تطرفاً) من المواقف المعروفة لهذه المنظمات،
وأنه لم يأخذ الظروف القائمة والواقع الإقليمي والدولي بعين الاعتبار وزاد المطالب ووسع أفق الأهداف بما ناء بحمله العرب والفلسطينيون وما زالوا حتى الآن، نظراً لعدم توازن القوى وثقل الحمل وضعف الحامل.
يبدو لي أن مثل هذا الشعار (الهدف) ليس أمراً خيالياً بالمطلق ويمكن تحقيقه في مستقبل الأزمان وتتالي الأجيال، وهو وإن كان الآن ضرباً من (الخيال الأيديولوجي) فإنه قد يصبح مستقبلاً ممكن التحقيق، ذلك لأن موقف إسرائيل الحالية وصلفها وجبروتها وتطرفها (وعماها) ينطلق من أمرين أحدهما الاعتماد على الدعم الأميركي غير المحدود
وثانيهما رهانهما على الضعف العربي الكارثي والهوان الذي قد لاتكون البلدان العربية مرت بمثله سابقاً، وأي خلل في أحد هذين الأمرين قد يجعل هذا الهدف قريب المنال أو أقله ليس بعيداً إلى الدرجة التي يبدو عليها الآن.
إن منطق الأمور وشروط التطور تجعل من المشروع الافتراض أن الهيمنة الأميركية وبالتالي الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل لن يبقى إلى أبد الآبدين، وان التراجع في أي منهما سيعيد إسرائيل إلى حجمها الحقيقي وقوتها الحقيقية أي دولة من بضعة ملايين غير محددة الثقافة
ولا الهوية نادرة الموارد المالية تواجه مشاكل داخلية صعبة بين (128) جالية قدمت إليها من معظم بلدان العالم (بعضها مازال يتحدث في بيته لغته الأصلية) لم تستطع بعد ستين عاماً أن تحدد هل هي (دولة اليهود)
أم (دولة إسرائيل) أم (دولة شرق أوسطية) أم رأس حربة للحضارة والثقافة الغربية.. الخ وبالتالي فإن وضعها الحالي الذي يصح تسميته (جيش يملك دولة) لا يمكن أن يستمر ولابد من أن يأتي يوم تفرض الحقائق نفسها على المجتمع الإسرائيلي.
ومن جهة أخرى فإن منطق الأمور نفسه وشروط التطور والنظام العالمي الجديد تنحاز إلى صحة الافتراض أن الدول العربية لن تبقى كما هي الآن، فلابد لها من أن تتبنى نظاماً عربياً جديداً وتصل إلى أنظمة ديمقراطية تحرر الإنسان العربي وتحقق التنمية والتطور وصولاً إلى دول قوية وغنية تعيش في ظل نظام جديد أكثر انسجاماً واستجابة لمتطلبات العصر.
بقيت الإشارة إلى أن هذه الافتراضات لن تتحقق غداً إن كان ممكناً أن تتحقق وإنما في مستقبل الأيام والأزمان والأجيال وأن تحرير فلسطين لا يعني لا إبادة اليهود ولا طردهم وإنما إتاحة الفرصة لهم للعيش ضمن نظام المنطقة الجديد وأهدافها وشؤونها وشجونها.
في ضوء ذلك كله يمكن تفهم ما قاله ونوس (إما نحن وإما هم) ولكن من الخطأ الكارثي الوقوف عند هذا الهدف وكأنه سيتحقق غداً وخلط التكتيكي بالاستراتيجي وتجميد كل شيء حتى يتحقق كل شيء.