من خلال الشروط الذاتية والموضوعية للطرفين المتصارعين الإسرائيلي والفلسطيني يمكن للمتابع والمحلل السياسي أن يصل مسبقاً إلى نتيجة مؤداها استحالة وصولهما إلى اتفاق نهائي أو نصف نهائي لا خلال عام (2008) ولا في الأعوام اللاحقة إذا بقيت هذه الشروط قائمة داخل إسرائيل من جهة وداخل الطرف الفلسطيني (والعربي) من جهة أخرى.
سواء كانت المفاوضات برعاية الإدارة الأميركية الحالية أم برعاية الإدارة المقبلة، ذلك لأن حجم الخلافات والتباينات وأبعادهما والظروف القائمة لدى كل طرف هي نفسها دون تغيير أو تبديل، وتوازن القوى شديد الخلل، فنتيجة المفاوضات في النهاية هي محصلة قوى كل من الطرفين المتحققة في حيز الواقع وليست بالقطع نتيجة قوة الحجة لدى أي منهما أو صحة المنهجية أو القدرة على الإقناع خلال التفاوض.
وتوازن القوى الحالي والمنظور بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية (والعرب عموماً) لا يسمح بالوصول إلى تسوية عادلة وشاملة تأخذ المصالح الفلسطينية والعربية بعين الاعتبار، وستكون التسوية ـ إن حصلت ـ بالضرورة تسوية أمر واقع أي تسوية إذعان تؤدي إلى صلح إذعان، وأي تفاؤل بالوصول إلى غير ذلك ما هو إلا ضرب من الخيال، بالرغم من تصريحات المفاوضين والسياسيين المتفائلة التي يمطروننا بها في كل يوم.
ستتناول المفاوضات قضايا الانسحاب والمستوطنات والقدس وحق عودة اللاجئين والجدار العازل وتقاسم المياه السطحية والباطنية وأخيراً الدولة الفلسطينية وحدودها ومدى سيادتها على أجوائها ومياهها ومداخلها ومخارجها.
وهذه قضايا معقدة يرفض الجانب الإسرائيلي التراجع عن مواقفه المتشددة تجاهها بل ربما يرفض وضع معظمها على جدول أعمال المفاوضات كما هي حال حق العودة والمستوطنات والمياه والجدار العازل، ويجيء رفض الحكومة الإسرائيلية هذا استجابة لمطالب الرأي العام الإسرائيلي الذي انحاز إلى اليمين وازداد تطرفاً وصلفاً.
وانسجاماً مع ميزان القوى المختل لصالح الجانب الإسرائيلي الأقوى عسكرياً والمدعوم أميركياً وأوروبياً والذي لا يخشى من قوة العرب وتراجع مفاعيل وسائل تهديدهم أو ضغطهم، ومادام الأمر كذلك في شروطه الذاتية والموضوعية، داخلياً وخارجياً، فلن تقبل إسرائيل إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وممَ تخشى إذا رفضت ذلك، وهل تقنع بحسن نوايا المفاوض الفلسطيني، والنداءات الخافتة من بعض الجهات العربية والدولية التي تطمح حالياً لإقناع إسرائيل بالبدء في المفاوضات وكيفما كان؟.
يعيش الجانب الفلسطيني (والعربي) في هذه الأيام وفي الظروف الداخلية والإقليمية والدولية أقصى درجات ضعفه وهوانه، فالمنظمات الفلسطينية منقسمة على نفسها ومتصارعة (ولنقل متحاربة) والوحدة الوطنية بعيدة المنال والسلطة الفلسطينية لا تملك من القوى سوى شرعيتها (وهذه غير مهمة لدى إسرائيل) ودعم بعض شرائح الشعب الفلسطيني، والحال العربي مفكك ومتناقض لا حول له ولا قوة، ودول العالم مع القوي ولم تعد تخشى فقدان مصالحها لدى العرب.
وسواء قرر لقاء آنابوليس بدء المفاوضات التي اعتبرها الرئيس بوش نصراً عظيماً أم لم يقرر فلا يغير ذلك من الأمر شيئاً ما لم يتغير الشرط الذاتي والموضوعي لدى العرب والإسرائيليين وعلى النطاق المحلي والعالمي، بحيث تقنع إسرائيل ورأيها العام أن الوصول لتسوية خير من عدمه وأن المماطلة والصلف خطرة العواقب كما حدث بعيد الانتفاضة الأولى.
عندما كان للعرب قوة يحسب حسابها، سواء منها القوة العسكرية أم الدور العربي الفعال في السياسة الدولية، خاصة أيام الحرب الباردة، لم يستطع أحد إلزام الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والعربية، فكيف الحال الآن والمفاوض الإسرائيلي يملك كل القوى بينما لا يملك المفاوض الفلسطيني والعربي سوى حسن النوايا وتوسل الإدارة الأميركية والدول الأوروبية كي تنصره، ولا حياة لمن تنادي، لأن هذه الأطراف لا تخشى هي والطرف الإسرائيلي أي خطر عربي إذا لم تسعف العرب في المفاوضات أو تحترم حقوقهم وتعترف بها.
يبدو أن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (والعربي الإسرائيلي) يتوقف الآن على مدى حاجة الاستراتيجية الأميركية والأوروبية في منطقتنا إلى تهدئة الصراع لا إلى أي شيء آخر، لأنها تخشى تهديد مصالحها، فالأمر ـ والحال كذلك ـ خرج من يد الفلسطينيين والعرب وينتظر تكرم الاستراتيجية الدولية بالعمل على حله حسب الصيغة التي تراها والتي تخدم في النهاية مصالحها ومصالح إسرائيل.
وعليه فإن بدء المفاوضات أو عدم بدئها، وتكثيف عقد الجلسات، ورفع مستوى المتفاوضين ما هي إلا شكليات وملهاة لن تصل إلى نتيجة، وهي غير قادرة على الوصول إلى تسوية حتى لو كانت عرجاء، ونتيجتها الطبيعية إما الفشل في حال إصرار الفلسطينيين والعرب على استعادة حقوقهم أو إلزامهم على القبول بصلح إذعان، ولن ينقذ المفاوضات من لا جدواها سوى موقف عربي آخر، يغيّر العرب من خلاله الشروط القائمة.
ويوحدوا صفوفهم، ويحققوا تضامنهم، ويرسموا أهدافهم، ويتذكروا ثوابتهم ويقرروا أساليب جديدة للتعامل مع قضاياهم من جهة ومع دول العالم ومصالحها والعلاقة معها من جهة أخرى، وإلا فإن المفاوضات حراثة في البحر لا فائدة منها ولن يكون لها أي مرتسم حقيقي في حيز الواقع، ولن تنتهي ـ دون ذلك ـ لا في سنة ولا في سنوات.
عندما يصل الصحفيون إلى هذه الاستنتاجات، ويصل لمثلها المحللون السياسيون بل والسياسيون أيضاً فينبغي أن لا نتهمهم بالتشاؤم أو بانتمائهم (لجبهة الرفض) كما درج بعض العرب على وصفهم خلال عشرات السنين.
بل ينبغي الاقتناع أنهم يرون الأمور بواقعية ويدركون الشروط الذاتية والموضوعية للتسوية ولا تغرّنهم تصريحات الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين الغامضة والتي تبدو ظاهرياً (معتدلة) لأن هذه التصريحات ما هي إلا تدليس وذر الرماد في العيون واللعب بالوقت الضائع وتزوير الوعي السياسي العربي ووعي السياسيين العرب كي لا يروا الواقع.
كما يجب أن يُرى، وكي لا يتحفزوا لمواقف جديدة تتهيأ لهم من خلالها إعادة النظر بظروفهم الذاتية ورؤاهم السياسية وعلى رأسها تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وعدم تنحية أساليب المقاومة بمختلف أشكالها، وعندها فقط قد يحسب لموقفهم ألف حساب وستكون المفاوضات أكثر جدية ونجاعة.
لقد كانت نتائج الجلسة الأولى والثانية من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي جرت في الشهر الحالي باهتة لا تبشر بإمكانية الوصول إلى نهاية مرضية، وكان من الطبيعي أن تكون كذلك من خلال العربدة الإسرائيلية التي لا كابح لها. ولعل ذلك مؤشر هام عن جدية ما جرى في لقاء آنا بوليس.