غالباً ما يتذكرنا الرؤساء الأميركيون في نهايات ولاياتهم، فيزورون بعضاً من دولنا العربية أو يرعون محادثات عربية ـ إسرائيلية بهدف إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي كما يزعمون وغالباً ما يهدفون إلى تتويج ولاياتهم بمنجزات تحسب لهم في تاريخهم الشخصي أو تساعدهم على الفوز في الانتخابات إذا كانوا في نهاية الولاية الأولى لهم.
وهذا ما فعله معظم الرؤساء الأميركيين ونتذكر الثلاثة الأخيرين منهم الرئيس بوش الأب الذي رعى مؤتمر مدريد والرئيس بيل كلينتون الذي رعى المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية، والسورية الإسرائيلية وهاهو الرئيس بوش الابن يفعلها ويقلد من سبقه ويعقد لقاء أنابوليس، والملاحظ أنهم جميعاً ومن كان قبلهم فشلوا في الوصول إلى حل نهائي للنزاع وعقد تسوية دائمة،
ولعل النتائج التي توصلوا إليها تثير التساؤل عن أسباب فشلهم، وعدم إمكانيتهم حل صراع أصبح مستعصياً، في الوقت الذي نجحوا فيه في حل مشاكل عالمية أخرى لا تقل صعوبة وتعقيداً عمّا في بلادنا وتحتاج لجهود وإمكانيات أكبر مما تحتاجه قضايانا، وهذا كله يغري بالبحث عن الأسباب الحقيقية التي أوصلت إلى هذه النتائج.
يبدو لي أن على رأس أسباب الفشل تعامل الإدارات الأميركية المتعاقبة مع الصراع العربي الإسرائيلي كوسيط منحاز لا طرف حيادي نزيه وشفاف يجنح فعلاً للوصول إلى حل ويتخذ مواقف صلبة وعادلة ونزيهة، ويستخدم كل وسائل الضغط التي يملكها بمواجهة العنت الإسرائيلي والمطالب الإسرائيلية الجائرة والمطامع التي لا حدود لها،
فغالباً ما يكون الوسيط الأميركي لطيفاً سمحاً متساهلاً مع الصلف الإسرائيلي ومطامعه ومطالبه غير المعقولة، لا ينطق بكلمة حق واحدة أو يتخذ موقفاً متصلباً واحداً أو يهدد بعقوبة واحدة مهما كانت متواضعة، بل على العكس من ذلك يستعمل كل أدوات الضغط التي يملكها على الجانب العربي بما يصل أحياناً إلى التهديد، ولو كان تهديداً مبطناً،
ويحاول إقناع هذا الجانب بضرورة التنازل الذي لا قرار له للوصول إلى تسوية منطلقاً من مقدمات خاطئة مثل اعتبار الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة تنازل (عن أرض تملكها إسرائيل) زاعماً أن هذه الأراضي هي أراضٍ لا مالك لها بعد تخلي الأردن عنها إلى الشعب الفلسطيني،
ومثل تجاهل الحقوق التاريخية كافة كحق العودة أو تناسي قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وكأن الصراع بدأ بالأمس بين طرفين أحدهما ـ وهو الطرف العربي ـ لا حقوق تاريخية له، والآخر ـ وهو الطرف الإسرائيلي ـ يملك كل الحقوق (والشرعية) التي تنهل من مرجعية الأمر الواقع،
والأنكى أن الضغوط الأميركية لا تكتفي بهذا كله بل تطالب بامتيازات للإدارة الأميركية في البلدان العربية بدل قيامها بدور الوسيط، امتيازات سياسية واقتصادية وعسكرية وغيرها، وكأن مجرد قبولها بدور الوساطة يلزم العرب بدفع ثمن هذا القبول.
إذا تأملنا المسيرة التاريخية للصراع خلال نصف القرن الماضي نلاحظ أن الإدارات الأميركية المتتابعة لم تكن منذ قيام إسرائيل حتى الآن حيادية تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولم تحاول أي إدارة أن تكون أقل التصاقاً بالموقف الإسرائيلي،
مما زاد هذا الموقف تطرفاً وعنتاً وشجع الحكومات الإسرائيلية على زيادة مطالبها مع الزمن حتى تراكمت وأصبح تحقيقها مستحيلاً، ومازالت تطالب بالمزيد، فقد التهمت المستوطنات الضفة الغربية وقطّعتها (بالطرق الالتفافية) إرباً إرباً،
وأحاطت القدس بسوار من المستوطنات يجعل من شبه المتعذر إعادتها لأصحابها الفلسطينيين، (وكل ما طالب به الرئيس بوش مثلاً هو التراجع عن المستوطنات العشوائية غير القانونية وكأن هناك مستوطنات قانونية وشرعية؟). كما تحدث الرئيس بوش أيضاً عن قيام دولتين متجاورتين دون أن يتعرض لمضمون الدولة الفلسطينية وشروط قيامها،
فأي دولة هذه التي تقطعها المستعمرات وطرقها، وتحرم من السيادة على مياهها الباطنية والساحلية وعلى سمائها، ويمنع عليها تأسيس جيش لها مهما كان متواضعاً، ويحدد عدد اللاجئين الذين يريدون العودة إليها، دولة تأكلها المستوطنات ولن تستطيع العيش يوماً واحداً دون مساعدات خارجية، وهذا كله لا تراه الإدارات الأميركية ورغم ذلك تزعم أنها وسيط نزيه.
وفي الوقت نفسه فتحت إدارة الرئيس بوش أبواب الجحيم في منطقتنا بسبب احتلال العراق، وأطلقت غيلان الطائفية والإثنية والإقليمية في المنطقة تحت شعار تحقيق الديمقراطية مما أخاف شعوبنا من هذه الديمقراطية وأخذت تدعو الله أن يبعدها عنها. ومازالت تتدخل تدخلاً فظاً في شؤون لبنان والسودان والصومال وغيرها من البلدان العربية،
وتسعى لتفرض علينا مقولة أن صراعنا الرئيس في الوقت الراهن هو مع إيران وليس مع إسرائيل، وأن الخطر الكبير إنما يتأتى من المطامع الإيرانية (المحتملة) وليس من السياسة الإسرائيلية القائمة والمطبقة، وتحاول أن توظف البلدان العربية عناصر في إستراتيجيتها الكونية وتحقيق مصالحها حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الحيوية لهذه البلدان وشعوبها.
إن ترميم العلاقات العربية الأميركية وتطبيقها وتمتينها لا تتأتى من زيارة أو مجاملة أو تبادل العبارات الدبلوماسية الغامضة، وإنما من مواقف أميركية جادة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وضغط جدي على الحكومة الإسرائيلية لتعترف بالحقوق العربية،
وموقف آخر أكثر عدلاً وإنصافاً تجاه ما يجري في العراق وتجاه قضايانا الأخرى، وإن لم يحصل ذلك فسيبقى العرب شعوباً وأنظمة سياسية يلقون التبعات ـ محقين ـ على الإدارة الأميركية.عندما تتخذ الإدارة الأميركية موقفاً جاداً ومسؤولاً ونزيهاً وعادلاً تجاه الحقوق العربية، يحق لها ـ عند ذلك فقط ـ أن تطمح بالصداقة الحقة ـ وليست المفروضة ـ مع العرب، وتجعلهم يحتفون بزيارة رئيسها كائناً من كان.