تطالب معظم الدول العربية وغير العربية سوريا باستخدام نفوذها في لبنان والضغط على المعارضة اللبنانية للقبول بالمبادرة العربية التي تهدف لحل الأزمة اللبنانية بانتخاب رئيس للبنان وتشكيل حكومة وطنية وتعديل قانون الانتخاب.
وذلك كله في ضوء تفسير عربي بعينه للمبادرة لم تقبل به المعارضة اللبنانية ولا السياسة السورية، واعتبرت هذه الدول أن سوريا هي السبب الرئيسي لإطالة أمد الأزمة واستمرار الفراغ الدستوري واتهمتها بأنها تعمل على انهيار المؤسسات الدستورية اللبنانية وتهديد الأمن الداخلي والسلام الأهلي وتعريضهما للخطر.
يبدو أن هذه المطالبة وتلك التهمة انطلقتا من (بديهية) لدى بعض الأطراف العربية تقول إن السياسة السورية قادرة على إلزام المعارضة اللبنانية بقبول ما تريده وبالتالي فموقف المعارضة اللبنانية تابع للموقف السوري وأن هذه المعارضة تنفذ تلقائياً الرغبات السورية.
سواء قبلت بها أم لم تقبل وسواء ناسبتها أم لم تناسبها وعلى ذلك فإن المسؤولية في الأزمة هي مسؤولية سوريا أولاً وأخيراً لأن قرار المعارضة يتخذ في دمشق وفي ضوء مصالح نظامها السياسي القريبة والبعيدة، حتى أن الوضع اللبناني أصبح بنظر هؤلاء ورقة من أوراق النظام السوري يستخدمها.
كما يريد في سياساته الإقليمية والدولية وتحالفه مع النظام الإيراني بل وفي سياسته الداخلية، ولم يتم التوقف ملياً عند تساؤل مشروع وهو هل الأمر الآن وبعد الانسحاب السوري هو كذلك فعلاً، وهل للسياسة السورية القدرة الكلية على التصرف بموقف المعارضة اللبنانية وإعطاء الأوامر لها لتنفذ ما تريده هذه السياسة؟.
وهل تمت دراسة الواقع اللبناني السياسي والاجتماعي والطائفي (الحالي والتاريخي) دراسة معمقة تصلح لتكون مقدمة لهذا الاستنتاج، وما هي الأسباب الموضوعية التي أدت لمثل هذا الافتراض؟.
استمر التواجد السوري المباشر في لبنان قرابة ثلاثة عقود، كانت القوى السياسية اللبنانية خلالها ضعيفة، يحتاج كل منها للعون السوري، ودعمت سوريا بعضها وتحالفت مع البعض الآخر، وكان لها كلمة نافذة لدى الجميع، وقد تم ذلك بموافقة قوى إقليمية ودولية كان لها مصلحة فيه، سواء اتفقت هذه القوى مع المصلحة السورية أم اختلفت،
وفي الحالات كلها قصرّت سوريا في إقامة شبكة علاقات اقتصادية واجتماعية وإدارية ومؤسساتية وغيرها مع الشعب اللبناني والمؤسسات اللبنانية والدولة اللبنانية، وبقيت علاقاتها مقتصرة على القادة السياسيين ورؤساء الطوائف والمتنفذين في المجتمع وارتكبت بذلك خطأ كبيراً، وبعد خروج القوات السورية من لبنان تغيرت الصورة واختلفت التحالفات والأولويات ونشأ واقع جديد يختلف كلياً عما كان الأمر عليه قبل ذلك.
يمكن مقاربة تصنيف المعارضة اللبنانية تحت فئات ثلاث: بعض الأحزاب اللبنانية الصغيرة (سياسية كانت أم محلية) وهذه بحكم ضعف إمكانياتها الحزبية ونفوذها الاجتماعي وتنظيماتها الشعبية تجد نفسها مضطرة للسعي وراء استمرار تحالفها مع السياسية السورية مهما كانت مواقفها وربما كانت الوحيدة التي تعتبر المنفّذ الأمين للسياسة السورية في لبنان.
والفئة الثانية هي التيار الذي يتزعمه العماد ميشيل عون (تكتل التغيير والإصلاح) وهذا بالتأكيد ليس تابعاً تلقائياً للسياسة السورية وله مواقفه الخاصة وسياساته ومصالحه الذاتية ويخطئ من يظن أنه تابع للسياسة السورية.
إلا أن بعض مواقفه (ومصالحه) تلتقي هنا وهناك مع السياسة السورية فهو في النهاية حليف ظرفي. أما التيار الثالث وهو بيضة القبان فهو تيار حزب الله الذي لابد من وقفة متأنية عند تاريخه ومواقفه وتحالفاته بما فيها علاقته بسوريا حالياً ومدى تلقائية قبوله بمتطلبات سياساتها ومدى ارتهانه للسياسة الإيرانية.
تأسس حزب الله في مطلع ثمانينات القرن الماضي بمساعدة عسكرية ومالية مباشرة من إيران وموافقة ودعم سوري، وكانت أهدافه المعلنة منذ تأسيسه وحتى عام (2000) أهدافاً أيديولوجية إضافة إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية ولم يهتم حتى ذاك التاريخ بالشأن الداخلي اللبناني ولذا لم يشارك في أية انتخابات نيابية أو في أية حكومة لبنانية في السنوات العشرين الأولى من تأسيسه .
وكان خلال هذه الفترة يستكمل استعداداته الحزبية والشعبية والعسكرية وإقامة مؤسساته التعليمية والصحية والاجتماعية وغيرها، وأصبح منذ مطلع القرن الحالي تنظيماً حديدياً شعبياً وعسكرياً وفي كل مجال، ولم يأت اتهامه من قبل الموالاة بأنه يشكل دولة داخل الدولة من فراغ أو يعتبر افتراء من منافسين، فقد شهد حزب الله منذ بضع سنوات تطوراً متعدد الجوانب.
فحقق صموداً بوجه العدوان الإسرائيلي عام (2006) يقوم مقام النصر، ثم استكمل تسليحه بعد ذاك العدوان وأصبح يمتلك سلاحاً يفيض عن حاجته ولم يعد يحتاج حاجة كبيرة للممر السوري لهذا السلاح، وكان قد خاض الانتخابات اللبنانية الأخيرة وشارك في الحكومة اللبنانية وأصبح الشأن اللبناني الداخلي من همومه الأساسية، وجاهر في الوقت نفسه بتحالفه مع إيران واعتبرها حليفه الرئيس وبعدها تأتي سوريا.
لقد أوشك حزب الله على تحقيق الاستقلال الذاتي وغدت آلية عمله متكاملة مهما كان شكل العلاقة مع سوريا، ويمتلك الحزب الآن من الأسلحة والأموال ما يؤهله ليقول نعم أو لا للسياسة السورية، وصارت له استراتيجيته الداخلية اللبنانية والإقليمية المتناغمة مع السياسة الإيرانية رغم توافقها حتى الآن مع السياسة السورية إلا أنها ليست رهينة لها ولا متطابقة مع مصالح سوريا وأهدافها السياسية تطابقاً مطلقاً كما هو حال التماهي مع السياسة الإيرانية.
وعليه يمكن الافتراض أن حزب الله يستطيع القول لا للسياسة السورية لأنه ينفذ (أجندته) الخاصة، ومع أن هذا لا يعني أنه ليس صديقاً أو حليفاً لسوريا لكن تحالفه هذا ليس بدون حدود ويأخذ باعتباره دائماً مصالحه الخاصة ومصالح حليفه الإيراني.
في الخلاصة أصبح حزب الله يمتلك الإمكانيات الذاتية البشرية والعسكرية والمالية والمؤسساتية التي تؤهله لاتخاذ قراره المستقل معتمداً على الدعم الإيراني، ولم يعد تحالفه مع سوريا بالقوة نفسها والصلابة نفسها كما كان الأمر حتى الآن.
لعله في ضوء هذا كله يمكن إدراك أبعاد النفوذ السوري السابق والحالي في لبنان.