ما لا يمكن تجاهله في اي وقت من الاوقات ان المنطقة العربية دخلت مرحلة جديدة كلياً, غيّرت هذه المرحلة المفاهيم السابقة كلها وبات منطقياً دراسة العطيات الاقليمية الراهنة بهدوء بدلا من البقاء في اسر الماضي في حال كان مطلوبا التقدم بدلا من التراجع.
كان ما حلّ بالعراق بمثابة الانقلاب الكبير الذي غيّر المفاهيم السائدة كلها واوجد توازنات اقل ما يمكن ان توصف به انها مختلفة, ووضع الانقلاب العراقي العرب، امام خيارين لا ثالث لهما, اما التعاطي مع العراق الجديد واما رفض ذلك وتحمّل تبعات هذا التصرف, ثمة من يقول ان الوضع العراقي لم يستقر بعد عند معادلة معينة، كي يتوجب على العرب الاختيار, انه كلام صحيح الى حد كبير, ولكن ما هو صحيح اكثر ان العراق غيّر المعادلة الاقليمية تغييراً كاملاً وذلك بغض النظر عن الشكل الجديد للبلد والعلاقة التي ستنشا بين العراقيين انفسهم بمذاهبهم وقومياتهم المختلفة او بين المناطق العراقية, اي بين الجنوب ذي الاكثرية الشيعية والغني بالنفط الذي صار فيه لايران اليد الطولى خصوصاً عبر ميليشيات الاحزاب التابعة لها، وبين الوسط السني الذي يعوض عن افتقاره لآبار النفط بانتعاش الحركات الدينية المتطرفة وممارستها الارهاب بوحشية لا مثيل لها في العالم,,, وبين شمال يعدّ نفسه للتمتع بنوع من الاستقلال لم يعد ينقصه سوى التوصل الى صيغة لاشراك الاكراد في مداخيل حقول النفط في كركوك.
انه انقلاب تاريخي لم تشهد المنطقة مثيلا له منذ انهيار الامبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى, ومع اطلالة العشرينات من القرن الماضي, وقتذاك، بدا يتشكل العراق الحديث في شكل دولة مركزية قويّة تدار من بغداد، عاصمة الرشيد, كان العراق طوال هذه الفترة والى حين سقوط نظام صدّام حسين البعثي ــ العائلي جزءا لا يتجزا من تركيبة معينة للشرق الاوسط, وحتى عندما قامت دولة اسرائيل على ارض فلسطين العربية ورغم كل ما اصاب الشعب الفلسطيني من ظلم جراء تشريده والاستيلاء على ارضه، صمدت التركيبة التي قام عليها الشرق الاوسط, واذا كان من انجاز لا يمكن الاّ الاعتراف به، فان هذا الانجاز يتمثل في ان التركيبة العربية التي كان العراق ركنا من اركانها استطاعت احتواء اسرائيل, نعم، استطاعت التركيبة العربية احتواء اسرائيل رغم سلسلة الهزائم المتكررة التي لحقت بالعرب منذ قامت الدولة اليهودية، بما في ذلك هزيمة العام 1967 والنتائج التي اسفرت عنها حرب اكتوبر عام 1973 ، وهي نتائج لا تصب في الضرورة في المصلحة العربية في حال اخذنا في الاعتبار ما حصل على الارض.
ولا بد في هذا السياق، من امتلاك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بان انور السادات فهم وقتذاك نتائج الحرب واستوعبها بحسناتها القليلة وسيئاتها الكثيرة واقدم لاحقا على خطوة التوصل الى اتفاق سلام منفرد مع اسرائيل, وسمح ذلك لبلده بالانصراف الى معالجة مشاكله الحقيقية، على راسها النمو السكاني المخيف الذي لا يزال يهدد اي تقدم تحققه مصر على الصعيد الاقتصادي.
بقي الوضع في الشرق الاوسط يراوح مكانه في ظل معادلة اسمها التركيبة التي قامت على انقاض الامبراطورية العثمانية وهي تركيبة اخذت في الاعتبار ضرورة قيام توازن في المنطقة بين قوتين كبيرتين تمثل كل منهما حضارة عريقة اي بين ايران الفارسية والعراق العربي, فالعراق كان بكل بساطة حامي البوابة الشرقية للعالم العربي, وما لم يفهمه صدام حسين في حينه، وربما ما لم يفهمه كبار المسؤولين الايرانيين بعد اندلاع حرب الخليج الاولى في العام 1980 ان ليس مسموحاً ان يخرج منتصر من هذه الحرب, كل ما هو مسموح به، المحافظة على توازن واضح لا يمكن الاخلال به, وكان لافتا خلال الحرب ان ايران تلقت في مرحلة ما اسلحة وقطع غيار عن طريق اسرائيل من اجل المحافظة على ميزان معيّن للقوى يحول من دون تحقيق اختراق عسكري عراقي كبير وعرفت فضيحة الاسلحة وقطع الغيار الاميركية لايران عبر اسرائيل تحت اسم «ايران غيت», هل من يريد ان يتذكّر ذلك؟ ام من الافضل عدم اعادة فتح مثل هذه الدفاتر والملفات بغية تصديق ما يطلق من هنا او هناك او هنالك من شعارات معادية لسرائيل تذهب الى حد تمني الموت لها؟
اما العراق فقد حصل باستمرار على ما يكفي من الدعم من قوى مختلفة، كي لا ينهار جيشه, وكانت فرنسا التي ارتبطت بعلاقات عسكرية مع العراق منذ العام 1975 تلعب دورا حاسما في تزويده باسلحة متطورة لمواجهة التفوق العددي لايران, وفي مرحلة معينة، اي في العامين 1983 و1984 ، بات فيها التفوق الايراني واضحا، اتخذ فرنسوا ميتران، الرئيس الفرنسي وقتذاك، قرارا يقضي بـ «اعارة» العراق طائرات من طراز «سوبر ايتندار» مجهزة بصواريخ «اكزوسيت» وذلك بهدف تعطيل صادرات النفط الايرانية, وبرر ميتران خطوته هذه وخطوات اخرى مماثلة لها بقوله ان خط الحدود الفاصل بين العراق وايران ليس مجرد خط يفصل بين اراضي دولتين، بل هو خط «تاريخي» يفصل بين حضارتين مشيراً الى ان عمر هذا الخط مئات السنين.
ما حصل بعد الاحتلال الاميركي للعراق ليس مجرد سقوط لنظام لا يمكن الدفاع عنه في اي شكل، اذ لا يمكن وصفه سوى بعبارة «نظام المقابر الجماعية» وهو نظام كان لا بد ان يعاقب على جريمة احتلال بلد آمن اسمه الكويت، مد له يد العون في اسوا الظروف, ما حصل هو اخلال بتركيبة المنطقة تمهيداً لاعادة النظر فيها, ما حصل في اهمية ما جرى في مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية, قليلون بين العرب فهموا ذلك باكرا واستوعبوا منذ بدء الاستعدادات الاميركية للحرب ان المسالة ليست مجرد تغيير نظام، بل انها ابعد من ذلك بكثير, وبين تلك القلة كان رجل، عربي اوّلا، اسمه الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني (النائب الاول لرئيس الوزراء وزير الخارجية القطري) سعى الى افهام صدّام بحقيقة الوضع الاقليمي والدولي فزاره قبل الحرب لعلّه يقدم على خطوة تؤدي الى تفاديها بما يوفّر على العرب والعراقيين الكثير, لكن المشكلة ان الديكتاتور العراقي لا يفهم شيئاً عن المعادلات العربية والدولية وهو فضّل البقاء في موقعه على انقاذ ما يمكن انقاذه وما كان لا يزال في الامكان انقاذه من العراق.
تقضي الشجاعة حاليا بالتعاطي مع الوضع العراقي مما وصل اليه وليس بالسعي الى اعادة عقارب الساعة الى خلف, وبكلام اوضح، ان ما حصل في العراق ليس مجرد سقوط نظام, انه انقلاب على الصعيد الاقليمي يفوق في خطورته زرع دولة اسرائيل في ارض فلسطين, والمشكلة تكمن في ان على العرب، شاؤوا ام ابوا، التعاطي مع الوضع الجديد الذي خلقه الاميركيون والنتائج المترتبة عليه, وهذا ما ادركه الاردن بقيادة الملك عبدالله الثاني فارسل رئيس وزرائه الى بغداد، كي لا يبقى العرب خارج الصورة غير مدركين ما يدور على ارض الواقع ولما يمكن عمله وما لا يمكن عمله في مواجهة الزلزال الذي حصل,اكثر من ذلك، ان التحرك الاردني يدعم بالفعل وليس بمجرّد الكلام، اولئك الذين يسعون الى حضور عربي في العراق بغية ايجاد حدّ ادنى من التوازن مع الآخرين.
بعد عامين ونصف عام على الزلزال العراقي، يمكن القول ان مفاعيل الحدث لا تزال في بدايتها, اراد الاميركيون اعادة تشكيل الشرق الاوسط, هذه حقيقة لم يعد في الامكان تجاهلها, لكن ثمة حقيقة اخرى بدات تفرض نفسها بقوة, هذه الحقيقة تتمثّل في انهيار الخط «التاريخي» الذي كان يفصل بين حضارتين, ونتائج هذا الانهيارقضية اكبر بكثير من ان تعالجها دولة عربية واحدة مهما كانت مهمة ومن السعي الى التحذير من الخطر الايراني في وقت يبدو متاخراًً,,, انها قضية توازنات جديدة لا اكثر ولا اقل لا علاقة لها بالشرق الاوسط الذي عرفناه ابتداء من العشرينات!