تضمنت سياسة "الإحتواء المزدوج" للعراق وايران، التي اتبعتها إدارة جورج بوش الأب بعد حرب 1991 ثم أعلنتها إدارة بيل كلينتون سياسة رسمية لها، اتجاهاً إلى عدم تغيير البنية الاجتماعية الحاكمة في بغداد منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921. وقد ظهرت ملامح ذلك، بعد استسلام الجيش العراقي في "خيمة صفوان" بأيام قليلة، لما أغمضت الإدارة الأميركية عينيها عن سحق صدام حسين انتفاضة الجنوب، التي اعتبرتها واشنطن امتداداً لايران واتجاهاً إلى تقويض الواقع التقليدي القائم في بغداد، فيما صرح وزير الدفاع الأميركي هارولد براون في آب 1995، عقب انشقاق صهر الرئيس العراقي الفريق حسين كامل ولجوئه إلى عمان، أن الولايات المتحدة تريد "بديلاً من داخل النظام ومن منطقة الوسط".
تغير ذلك مع إدارة بوش الإبن، الذي اتجه، وقبل "11 أيلول"، إلى سياسة التخلي عن"الإحتواء المزدوج" لمصلحة احتواء منفرد لبغداد عبر سياسة "العراق أولاً" التي تحولت، بعد ضرب البرجين، الى اتجاه واضح نحو غزو العراق، وهو ما بانت ملامحه الواضحة في "خطاب حالة الاتحاد" الذي ألقاه الرئيس الأميركي في الشهر الأول من 2002 بعد قليل من"نزهة أفغانستان". كانت الترجمة الفورية لذلك تقارباً ايرانياً – أميركياً علنياً، لم يقتصر على مظهر التلاقي الموضوعي، كما حصل بينهما تجاه كابول "طالبان" في خريف 2001، وإنما امتد إلى تلاقي الإرادات. وهو ما أظهرته صورة وفد المعارضة العراقية، الداخل إلى مبنى الخارجية الأميركية في أوائل آب 2002، بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم، الذي صرحت مصادره بأنه قد أخذ الضوء الأخضر من المرشد خامنئي قبل حصول هذا اللقاء. وهو ما تكرر في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية في الشهر الأخير من ذلك العام، والذي حضره السفير خليل زادة، حيث بانت طبيعة التركيبة الحاكمة المقبلة في بغداد من خلال الحاضرين في ذلك المؤتمر، الذي غلبت عليه التركيبة الشيعية – الكردية.
كان يوم 9 نيسان 2003 بداية شهر عسل الزواج الايراني – الأميركي، وقد بانت ملامح ذلك عبر واقعة حصول حلفاء ايران التقليديين على الحصة الكبرى من كعكة "مجلس الحكم العراقي" الذي شكَله الحاكم الأميركي بول برايمر في تموز 2003، بعدما شكلوا الستارة المحلية الرئيسة للغزو، ثم للإحتلال، فيما أعطت طهران تقاربات لافتة حيال الولايات المتحدة مقابل ذلك، كما جرى في شهر الرئاسة الدورية لمجلس الحكم من جانب السيد جلال طالباني، لما اعترفت طهران بمجلس الحكم وأعادت فتح سفارتها في بغداد، الامر الذي ترافق في الشهر نفسه، أي تشرين الثاني 2003، مع اعلان طهران وقف برنامج التخصيب النووي الايراني.
كان قرار السلطة الايرانية استئناف برنامج التخصيب النووي في 8 آب 2005، بعد قليل من انتخاب المتشدد أحمدي نجاد وهو المدعوم من السيد خامنئي، اعلاناً عن حصول الإنشقاق الايراني–الأميركي بمبادرة من طهران. ويبدو أن الايرانيين درسوا ملياً، في حركتهم الهجومية الاستباقية هذه، ما حصل لدمشق التي وُضعت في موقع دفاعي من جانب القطب الواحد الآتي بحضوره المباشر إلى الاقليم منذ يوم 9 نيسان 2003، والذي أراد بعد هذا الحضور إعادة النظر في الأدوار الاقليمية السابقة، وهو ما أدى إلى صدام مباشر مع دمشق، توضحت ملامحه منذ زيارة الوزير باول للعاصمة السورية بعد أسابيع من سقوط بغداد، ثم وضعت عناوينه وأجنداته مع القرار 1559 (2 أيلول 2004).
لم يكن هذا القرار الايراني رد فعل على ما جرى عند شاطىء المتوسط، وإنما تعبيراً عن محصلة قوى رأت طهران أنها أصبحت تمتلكها، عقب أن أزالت الولايات المتحدة أعداء ايران في الشرق والغرب، الذين دفعت طهران مئات الآلاف من جنودها عبثاً لإزالة أحدهم عند حدودها الغربية، وبعد أن تحقق لطهران نفوذ في بلاد الرافدين (عبر مشهد شبيه بالذي عبر عنه كارل ماركس تجاه ما قام به بسمارك من تحقيق للوحدة الألمانية في عام 1871، بعبارة "إنه يقوم بجزء من عملنا"، وهو مايستدعي الإنطباعات الداعية للتأمل حول الفرق بين العقليتين الإنكليزية والأميركية اللتين يمكن تلمس الفرق في استيعابهما للوضع العراقي من خلال مطالعة "اوراق" جيرتروود بيل التي أقنعت لندن بتبني فيصل ملكاً على العراق في صيف 1921 وقراءة مذكرات بول برايمر عن العام الذي قضاه في العراق) النفوذ الذي سعى اليه حكام بلاد فارس خلال الخمسة قرون الفاصلة التي تبدأ مع نشوء الدولة الصفوية (1502)، ليضاف ذلك إلى ما تملكه طهران من أوراق قوة امتدادية في لبنان وفلسطين، حيث أصبحت ايران، عبر قوى محلية فيهما، لاعباً رئيسياً في "الصراع العربي – الاسرائيلي".
ربما، لن يكون هناك الكثير من المغالاة في القول إن هناك بداية تنازع نفوذ بين طهران وواشنطن، على العراق، الآن. حيث يوجد للثانية الجيوش، فيما تملك الأولى الإمتداد السياسي المحلي، ويملك الموالون لها الكتلة البرلمانية الأقوى ومفاصل السلطة والمراكز الكبرى. تعطي المسافة المتزايدة، باطراد منذ أشهر، بين واشنطن والقوى الشيعية العراقية، مؤشرات على ذلك، والتي لاتقتصر على صدامات واحتكاكات مع الصدريين وإنما امتدت إلى حدود حرب كلامية علنية بين بوش والمالكي، فيما توحي استراتجية بوش الجديدة، والتي فيها الكثير من إدارة الظهر لتوصيات تقرير بايكر – هاميلتون، ان ايران في مرمى النظر الأميركي، وان هناك اتجاهاً عند الرئيس بوش لعدم الوصول إلى حلول وسطى مع طهران، بخلاف الفترة الفاصلة بين نيسان والعشرة أيام الأولى من تموز الماضيين بعدما اقترح السيد الحكيم محادثات ايرانية – أميركية حول العراق، وما تزامن مع ذلك من مفاوضات بين سولانا ولاريجاني حول البرنامج النووي الايراني، وصلت إلى الفشل في ذلك التاريخ من شهر تموز الماضي.
هنا، كان حديث الوزيرة رايس عن "معتدلين في مواجهة متشددين" في المنطقة، في أثناء زيارتها لها في بتشرين الأول الماضي، مؤشراً أولياً على الاتجاه نحو تبني هذه الاستراتيجية الجديدة، بما تعنيه من انشاء حلف اقليمي ضد طهران برعاية واشنطن، بكل ما يحويه ذلك من اتجاه أميركي مستعاد لإعادة الاعتماد على العديد من الأنظمة العربية القائمة، وما يعنيه هذا من التخلي عن اتجاه الدمقرطة الذي تبنته الإدارة الأميركية عبر "مشروع الشرق الأوسط الكبير" (13 شباط 2004).
هذا، أيضاً، يترافق مع ملامح أولية عند واشنطن للتخلي عن السياسة التي اتبعتها، منذ تولي بوش الإبن للأمور، بوضع عملية "التسوية" للصراع العربي الاسرائيلي في البراد، ربما للإتجاه نحو محاولة تجفيف ينابيع الامتداد الايراني إلى شرق المتوسط عبر البؤر المتفجرة في هذا الصراع، تمهيداً للمجابهة الكبرى مع طهران خلال السنتين الفاصلتين عن موعد خروج الرئيس الأميركي من مبنى البيت الأبيض.
من الواضح، الآن، أن المنطقة، الممتدة بين أفغانستان وساحل شرق المتوسط، أصبحت ساحة للمجابهة بين القوتين العظميين في الشرق الأوسط الراهن، أي واشنطن وطهران، وان كل القوى، من سلطات وقوى سياسية ، تتحدد مواقعها، بشكل أو بآخر، ضمن هذين المدارين، وأما الموقع الثالث فإما معدوم وإما ضعيف: إلى أين سيقود كل ذلك؟