«الكيوبتس» كلمة عبرية تعني «التجمُّع»، وتُستخدَم الكلمة في الكتابات الصهيونية للإشارة إلى مستوطنة تعاونية تضم جماعة من المستوطنين الصهاينة، يعيشـون ويعملون سـوياً، ويبلغ عـددهم بين 450 و600 عضو، وإنْ كان العدد قد يصل إلى ألف في بعض الأحيان. ويُعدُّ "الكيبوتس" من أهم المؤسسات الاستيطانية التي يستند إليها الاستعمار الصهيوني في فلسطين المحتلة. بل يُقال إن "الكيبوتس" هو أهم المؤسسات السياسية والاجتماعية على الإطلاق داخل الكيان الصهيوني. فـ"الكيبوتس"، شأنه شأن أية مؤسسة استيطانية إحلالية، مؤسسة عسكرية بالدرجة الأولى. فعلى سبيل المثال، كان اختيار موقع "الكيبوتس" يتم لاعتبارات عسكرية بالدرجة الأولى، ثم لاعتبارات زراعية بالدرجة الثانية. وتظهر طبيعة "الكيبوتس" العسكرية في أن أعضاءه لا يتدرّبون على الزراعة فحسب، وإنما على حمل السلاح أيضاً.
وكان "الكيبوتس" يقوم بغرس القيم العسكرية في أعضائه من خلال الدعاية الأيديولوجية والتربية الرسمية وغير الرسمية اليومية، وبخاصة من خلال أسلوب الحياة الجماعية الصارمة. ونظراً لأنه مؤسسة عسكرية يحاول "الكيبوتس" أن يقضي على بعض المؤسسات الاجتماعية مثل الزواج والأسرة لحساب الروابط القومية، ولحساب الولاء للدولة أو المؤسسة العسكرية. ويبدو أن التنشئة الاجتماعية في "الكيبوتس" تهدف إلى هذا أساساً.
وكانت الحياة في "الكيبوتس" تتسم بالتقشف باعتباره مؤسسة عسكرية، ويظهر هذا التقشف في تحريم تملُّك الأفراد للأرض أو للآلات وللمسكن المنفرد، فقد كان الجميع يعيشون حياة جماعية وليس في مساكن منفردة. وينصرف التحريم أحياناً إلى الأشياء الشخصية مثل الملابس. وقد كان التقشف يظهر أيضاً في أسلوب الحياة نفسها، من تحريم لتناول الطعام على انفراد إلى ممارسة أية نشاطات فردية. وجو التقشف هذا يشكل أساس التنشئة الاجتماعية العسكرية.
وتستند حركة "الكيبوتس" (شأنها في هذا شأن الحركة التعاونية الصهيونية)، إلى مفهوم العمل العبري الذي يذهب إلى أن اليهـودي كي يشفي نفسـه من طُفيليته "الجيتوية" ومن ضعفـه وخوره، لابد أن يعمل بيديه، وأن الأمة اليهودية لن تصبح أمة بمعنى الكلمة، إلا إذا ضمَّت في صفوفها عمالاً وفلاحين لا يشتغلون بالأعمال المالية، وإنما ينتجون في قطاعي الزراعة والصناعة.
وإذا كان "الكيبوتس" هو المجتمع الصهيوني مصغراً ومبلوراً، فأزمته هي أيضاً أزمة هذا المجتمع مصغرة ومتبلورة. والتحولات التي طرأت عليه هي تعبير مصغر متبلور عن التحولات التي طرأت على الكيان الصهيوني. وثمة مظاهر كثيرة لتحولات "الكيبوتس" وللأزمة التي يواجهها. فعلى سبيل المثال، بدأت الفردية والقيم النفعية الفردية تظهر في "الكيبوتس" فظهرت الجماعات المنفصلة (للرجال والنساء)، ثم بعد ذلك المساكن المستقلة لكل أسرة، (غرفتان وصالة -في العادة- وملحق مكوَّن من مطبخ وحمام). وبعض هذه المساكن مؤثث تأثيثاً فاخراً ويحتوي على أدوات ترفيه مثل الستيريو والتليفزيون الملون، مما يعني أن فكرة التقشف ذاتها قد انتهت. وتجدر الإشارة إلى أن هناك سيارات خاصة بـ"الكيبوتس" تقوم بنقل الأعضاء إلى المدينة، وبإمكان العضو أن يحجز سيارة ليستخدمها بمفرده.
وقد وصف أحد الكُتَّاب "كيبوتس دجانيا" عام 1986، بمناسبة مرور 75 عاماً على تأسيسه، فأشار إلى الترف الذي لم يحلم به المؤسسون الأوائل، مثل ملاعب التنس وحمام السباحة الذي كلَّف نصف مليون دولار، وغرفة الطعام التي كلَّفت مليوناً ونصف مليون دولار. ولنلاحظ هنا أن الابتعاد عن حياة التقشف ينتج عنه نوع من الاسترخاء، ولكن الأهم من هذا أنه يفتُّ في عضد الاتجاه الجماعي الذي يُعدُّ ركيزة أساسية للشخصية العسكرية.
ولعل من أهم التطوُّرات الأخرى في هذا الاتجاه (وهو تطور يُعَدُّ سلبياً من وجهة نظر مؤسسي "الكيبوتس" وقياداته)، عودة الأسرة للظهور كما يتضح في عودة المسكن المستقل، وفي انضمام كثير من الأطفال إلى ذويهم وقضائهم كل أو معظم أوقات فراغهم في «منازلهم» أو وحداتهم السكنية المستقلة، بعيداً عن المدرسة وعن مؤسسات "الكيبوتس" المختلفة. بل إن بعض "الكيبوتسات" بدأ في إنشاء مساكن تشبه شقق الطبقات المتوسطة في أي بلد غربي حديث.
ويبدو أن "الكيبوتسات"، شأنها شأن كثير من المؤسسات والأفراد في المجتمع الصهيوني، قد دخلت حلبة المضاربات (وأعمال الجيتو الهامشية الطفيلية). فقد تراكمت على مر السنين أرباح "الكيبوتسات"، ولكن بدلاً من إعادة استثمارها في الاقتصاد بشكل إنتاجي، راح أعضاء النخبة التي تدعي الاشتراكية في إسرائيل، يبحثون عن الأرباح السريعة والثروة الفورية عن طريق المضاربات وشراء السندات، حتى أصبح هذا النوع من الاستثمار يشمل ثلث دخل "الكيبوتسات" (وهكذا ينتقل "الكيبوتس" من الزراعة إلى الصناعة ومن الصناعة إلى سوق الأوراق المالية- والطفيلية والهامشية).
ولكن لعل العنصر الأساسي الذي بدأ يغيِّر توجه "الكيبوتس" وأهدافه، هو انحسار الأيديولوجية الصهيونية تدريجياً، التي بدأت تتحول من كونها دليلاً للعمل لأعضاء التجمع الصهيوني إلى محط سخريتهم. فقد بدأ كثير من أعضائه للعمل خارجها نتيجة ضعف الإيمان بالمبادئ والقيم الصهيونية التي تأسست عليها "الكيبوتسات". والسبب الرئيسي لترك "الكيبوتس" الذي يذكره معظم المغادرين هو "أن الموازنة الشخصية لم تَعُد كافية لتمويل النفقات اليومية"، أي أن النموذج الفردي النفعي الذي تصوَّر مؤسسو "الكيبوتس" أن بإمكانهم القضاء عليه آخذ في تأكيد نفسه. كما أن إسرائيل تخلت بالتدريج عن الاقتصاد العمالي التعاوني (الاستيطاني) وبدأت تدير الاقتصاد الإسرائيلي على أساس الاقتصاد الحر، فقلصت دور الدولة والقطاع العام وحولت الاقتصاد الإسرائيلي العمالي إلى اقتصاد رأسمالي. ومما يساعد على هذا الاتجاه الاتجاهات السائدة الآن في العالم من اتجاه نحو الخصخصة والعولمة، وهو اتجاه تضغط في اتجاهه الولايات المتحدة حتى تستطيع إسرائيل أن تلعب دوراً اقتصادياً في منطقة الشرق الأوسط بحيث يتراجع دورها القتالي إلى حدٍّ ما.
لكل هذا لم يكن غريباً أن يظهر مقال بعنوان "أول كيبوتس صهيوني يسير نحو الانقراض ومعه يذهب حلم الدولة" (يديعوت أحرونوت 19 فبراير 2007). ويذكر "يورام كانيوك" كاتب المقال أن الصحف قد نشرت أن (أُم "الكيبوتسات" و"الكيبوتسيين"، "دجانيا.أ"، قد تفككت، وحفيدة إسحاق رابين -الرجل الذي قاتل على مدى حياته في الحرب في سبيل حلم دجانيا- جاءت لتتعانق مع السلطة والمال".
ويرى الكاتب أن نهاية "الكيبوتسات" تعني في واقع الأمر نهاية إسرائيل التي يعرفها، فيقول: "الأسطورة دفنت. انتهت القصة التي من أجلها ذهبنا لنقيم دولة. ما تبقى هو المال والسلطة الرخيصة والعدائية، دولة مافيا، كل ما فيها اشتري بالمال والجميع يبيع ويشتري، مديرو بنوك يكسبون أكثر من 50 ألف شيكل في اليوم... النخبة ترقص على نغمات إسرائيل الجديدة، المريضة، الكارهة لمن كانت، والتي تبصق على ماضيها. إن اليوم الذي يخصخص فيه "الكيبوتس" الأول هو اليوم الذي يطوى فيه العَلَم. يفكك فيه حلم أرض إسرائيل، ويغلق فيه الأمر الأكثر جمالاً الذي كان هنا -الحركة "الكيبوتسية". يدفنون دجانيا بالشمبانيا والكافيار".
"كيف كان بوسعنا أن ننشئ هذا القدر الكبير من الكراهية والدوس على كل معيار. كيف كان بوسعنا نحن، سليلي الهجرة الثانية والثالثة والرابعة، أن نسمح بمثل هذا الأمر، حين يصبح كل أزعر رجلاً، ولا يكون فيه كرامة أو جمال أو خجل أو رحمة أو فهم. لعله فعلاً ضاع كل أمل".
وهكذا يتردد موضوع "نهاية إسرائيل" عند كل أزمة وعند كل منعطف.
والله أعلم.