مهما كان الفكر الاستراتيجي صائبا، لا يقدم الواقع السياسي ضمانة للنجاح، فتوازن القوى الظاهرة والكامنة هو ما يتحكم بسير الأحداث بحيث يصبح في بعض الأحيان متعذرا توجيه تلك الأحداث. أما ركوب الموجة فقد يسفر عن مخاطر أكبر مما يتوقع البعض، لكن ما يقدمه الفكر الاستراتيجي الصائب هو تجنب المطبات الكبيرة، والسير نحو الأمام رغم ان هذا السير قد يكون بطيئا بالمقارنة مع ما يعد به التكتيك المتحرر من النظرة الاستراتيجية. على ان تطبيق الاستراتيجية لا يمكن ان يتم بدون تكتيك، والفرق اذن هو بين ان يكون هناك ترابط بين النظرة الاستراتيجية والتكتيك بمعنى ان يكون التكتيك في خدمة الاستراتيجية، وبين ان يكون التكتيك بديلا عن الاستراتيجية غير الواضحة ولا يرتبط سوى بقليل من الأفكار والمبادىء السياسية ويخضع بصورة كبيرة للمبررات الذرائعية.
بقي ان نقول انه لا شيء مقدس في مسألة الاستراتيجية والتكتيك، فهي في النهاية مجرد أدوات للوصول الى الأهداف النهائية، وكأية أدوات معرفية تبقى ـ على ماهو مفترض- خاضعة للنقد والتعديل وحتى الاستبدال وفقا لما يظهر الواقع لها من فعالية ومصداقية، كل ما في الأمر أن على أي تعديل أو تبديل ان يجد تبريره الكافي من جهة اظهار نقائص الأدوات القديمة وكذلك ان يقدم بدائل تستند الى نتائج المرحلة السابقة ودروسها وخبراتها.
المعارضة السورية – تجربة اعلان دمشق
منذ مدة بدأ يظهر في صفوف المعارضة ميل لمراجعة المرحلة السابقة ونقد السياسات والتوجهات التي رافقتها، لكن ذلك لم يحصل للأسف بطريقة منهجية وواضحة، وبالتالي فما زال الالتباس حاصلا بين نزعة لا تعترف بأية أخطاء وترى أن المسألة برمتها عائدة لظروف أمنية داخلية قاسية وظروف خارجية غير ملائمة، وهي بالتالي تريد التمسك بذات الاستراتيجية والتكتيك مع التركيز على المسائل العملية حينا، وعلى فضائل الصبر والانتظار حينا آخر، مقابل نزعة أخرى أكثر واقعية تميل للنظر بطريقة نقدية للمرحلة السابقة واستخلاص العبر والنتائج على صعيد الاستراتيجية والتكتيك.
ما هو مهم الآن هو ادارة نقاش هادىء حول المرحلة السابقة والخروج باستنتاجات محددة بهدف تصويب الرؤية وليس بهدف تحميل المسؤوليات وتبادل الاتهام.
مثل ذلك النقاش أصبح ضروريا من اجل الاستجابة للمتغيرات الكبيرة التي حدثت، والتمهيد لاخراج المعارضة من الطريق المسدود الذي وصلت اليه.
لقد كتبت سابقا عدة مرات في نقد مبادرة اعلان دمشق التي تضم طيفا واسعا للمعارضة، من أجل ذلك لا أجد ضرورة في تكرار ذلك النقد. ما يهمني هنا هو البحث عن البدائل المتاحة في الاستراتيجية والتكتيك.
ترتبط الاستراتيجية بقوة بمسألة توازن القوى، وفي حالة المعارضة السورية هناك خلل فادح في توازن القوى بينها وبين النظام الحاكم، بحيث ان الحديث عن التغيير الشامل ووضعه كمهمة آنية غير وارد في اية خطة عقلانية.
أيضا اذا استطعنا الاصغاء للمزاج الشعبي فسنسمع أن الشعب السوري يخاف من التغيير الذي تدفع به القوى الدولية المتجبرة أكثر من طموحه للتغيير الديمقراطي وهو على حق في ذلك (الا تكفي كارثة العراق عبرة ؟).
اذن لا يوجد جدوى من النفخ في قربة مثقوبة، والتناقض ظاهر لا يخفى على العيان بين الحديث عن تغيير سلمي ومتدرج وبين دق طبول التغيير الشامل.
ما هي البدائل؟
ما أراه ان النقطة الأولى في استراتيجية المعارضة يفترض ان تكون بناء القوى الاجتماعية حاملة التغيير. وبالتالي فالمطلب المنطقي هو الحريات العامة التي تتيح للمعارضة الحركة، وليس التغيير ذاته.
نعم في الوقت الراهن يبدو هذا المطلب بعيد المنال، لكن ذلك يوضح ايضا المكان الحقيقي الذي نقف عليه، والذي يشكل القفز فوقه حركة بهلوانية في الهواء ليس الا.
ثمة فرق كبير بين ان تقول للحكم نحن نريد حرية رأي وحرية تشكيل أحزاب..الخ وبين ان تقول نحن نريد تغييرا شاملا، وبين هذا وذاك يمكن ان يكون الثمن أكبر مما يقدر البعض وتدفعه المعارضة ككل.
هل يمكن ان يقدم النظام حريات كهذه؟
هذا يعتمدعلى عدة امور منها نضال وحركة المعارضة، وبالنظر للتقدم الذي أحرزته مسألة الديمقراطية والحريات في العالم والمنطقة العربية وازدياد الوعي العام فسيجد النظام نفسه محرجا في تقديم بعض التنازلات عاجلا أم آجلاز لا يمكن ان تستمر سورية كما كانت في الثمانينات، وأعتقد ان ذلك أصبح مفهوما لأوساط واسعة داخل النظام، لكن الضغوط الخارجية التي وصلت حد التهديد بالوجود بالنسبة للنظام دفعته للتشدد في الداخل، ومن المؤسف أن خطاب المعارضة بعد اعلان دمشق أسهم في دفع النظام باتجاه التشدد في الداخل أيضا.
من هنا أود ان أصل لمسألة علاقة النظام بالمعارضة.
الحكم – المعارضة – وحدة الأضداد
فكرة (المعارضة) تستبطن بذاتها وجود سقف معلن لها، خاصة حين تكون سلمية – ديمقراطية – علنية، ما هو مهم هو تحديد ذلك السقف والالتزام به بحيث يشكل ذلك عقدا غير مكتوب يسهم في تحرر النظام من مخاوفه القديمة في التعامل مع الراي الآخر، وانا أزعم ان للنظام مصلحة في وجود المعارضة وحركتها، لكن تأثير تلك المصلحة ينتهي حين يشعر النظام بالتهديد بالوجود من جهة او حين يشعر ان سقف المعارضة لم يعد واضحا.
ماهي مصلحة النظام في وجود المعارضة وحركتها؟
ببساطة هي تحويل المعارضة من الأقنية السرية تحت الأرض الى أقنية مكشوفة واضحة المعالم، والمساهمة في تقديم الأفكار والبدائل التي لا يمكن ان تقدمها أوساط النظام التي تحجرت وشاخت معظم اطرها وكوادرها.
والأهم من ذلك ان المعارضة وحدها هي القادرة على اعطاء النظام بطاقة عبور نحو العالم الذي لم يعد يعترف بالنظم الاستبدادية ويعتبرها بقايا ديناصورات منقرضة.
على أرضية تقاطع المصالح تلك بين المعارضة والنظام يمكن التفكير في استعادة هامش الحركة السابق الذي كان موجودا قبل سنتين على ضيقه الشديد (مثل نشاط منتدى الأتاسي)، ومن ثم العمل لتوسيع ذلك الهامش باستمرار.
قطع مع النظام أم حوار معه؟
لست أدري بالضبط ما هو معنى القطع مع النظام (وهي الفكرة التي جاء بها اعلان دمشق). فاذا كان معناه اغلاق باب الحوار فتلك خطوة يتخذها عادة الطرف الأقوى وليس الأضعف، أو هي خطوة يمكن لطرف اتخاذها حين يمسك ببديل حقيقي آخر، اما اغلاق الحوار مع النظام الذي يمسك بكل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالبلد ونحن في موقع من ليس بيده شيء فلا أجد له معنى.
وفق ما اراه نحن الطرف الذي يفترض فيه المطالبة بالحوار، واحراج النظام به طالما يعترف بوجود معارضة وطنية، وجزء من الكفاح من أجل الحريات العامة يمكن ان يتم على طاولة الحوار، ومن المفترض أن لا ينتقص الحوار مع النظام من مصداقية المعارضة طالما أنه يتم في العلن تحت الأضواء، ومن أجل مصلحة الوطن وانتزاع الحريات لكن ذلك يتطلب أن تسقط المعارضة السورية من أجندتها نهائيا مسألة المشاركة في السلطة طالما لم تتحقق الحريات العامة بما في ذلك حرية الصحافة وتشكيل الأحزاب وتحديد صلاحيات الأجهزة الأمنية وفق القانون، بحيث يكون هناك فرصة حقيقية لوزارة ذات صلاحيات نافذة، ومجلس نيابي منتخب بصورة ديمقراطية.
من الاستراتيجية الى التكتيك
اذا كنا سابقا قد حددنا الاستراتيجية بتأمين هامش حركة للمعارضة لتعيد تواصلها مع المجتمع وتبدأ ببناء القوى الاجتماعية حاملة التغيير وذلك بالتركيز على انتزاع الحريات العامة، فان ذلك يقودنا لمسألة أخرى هي التكتيك المطلوب لتحقيق تلك الاستراتيجية.
بدون ريب هناك أكثر من تكتيك، لكن ما يتبادر للذهن ويرتبط بالحالة الراهنة اليوم هو استخدام الأدوات الثقافية والاعلامية للنفاذ للمجتمع بما في ذلك أوساط النظام، الحوار بذاته بكل أشكاله، التوجه للمجتمع بلغة سياسية وطنية بسيطة، التعبير عن الهموم الاجتماعية المعيشية وغيرها، وكهدف تكتيكي استعادة مواقع المعارضة التي خسرتها مثل منتدى الأتاسي وحق الاجتماع وحق التعبيرعن الراي والاعتصام السلمي.
ما أعتقده أن استعادة مواقع المعارضة وبالتالي خروجها من النفق لا يمكن ان يتم بدون حوار مع النظام، حوار قد لا يشكل مدخلا للاتفاق، ولكنه قد يشكل مدخلا لادارة الخلاف بطريقة أفضل من سياسة المتاريس العقيمة للطرفين.