بعد التصريحات والتسريبات التي رافقت زيارة نيكولا ميشال مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لبيروت، أصبح شبه مؤكد أن مجلس الأمن مقبل على اتخاذ قرار بتشكيل محكمة دولية وفق الفصل السابع، وتلك خطوة ينبغي التوقف مليا عند دلالاتها ونتائجها على صعيد مستقبل لبنان وسورية.
بمنظار الصراع الجاري في لبنان والذي وصل الى نقطة الاستعصاء، يعتبر تشكيل المحكمة الدولية اشارة لتورط الدول الكبرى بصورة أعمق في الداخل اللبناني، وهو تورط لن يكون من السهل الانسحاب منه.
ولبنان منذ لحظة اقرار المحكمة الدولية لن يعود لبنان قبل المحكمة. لبنان قبل المحكمة هو بلد يحتفظ الفرقاء فيه بهامش من استقلالية الحركة بغض النظر عن مساحة ذلك الهامش، أما لبنان ما بعد المحكمة فسيندمج فيه كل فريق بطرف دولي بطريقة لا تدع له هامشا حقيقيا للقرار.
ففريق 14 آذار لن يعود بامكانه تعديل الأجندة الأمريكية المرسومة للبنان بل تنفيذها، وحتى قبل اقرار المحكمة شهدنا كيف عدل ذلك الفريق موقفه من سلاح حزب الله ليصبح متطابقا مع الموقف الدولي في الدعوة لتجريد حزب الله من السلاح،وفي المقابل فقد جاء رد حزب الله سريعا (لقد ذهبتم الى أبعد مدى في التطابق مع الأهداف الأمريكية – الاسرائيلية).
من جانبه سيندفع حزب الله في سعيه للدفاع عن نفسه للتطابق هو الآخر مع الطرف الداعم له أعني سوريا وايران شاطبا الهامش المستقل الذي كان يتحرك من خلاله، ما سعت من أجله قوى 14 آذار – الحرية، السيادة الاستقلال – حصدت عكسه تماما، لبنان تكرس ساحة للصراع أكثر من أي وقت.
لكن على الأرض ماذا سيضيف تورط الدول الكبرى، وكيف سيتم تعديل ميزان القوى؟ ربما لا أحد يعرف تماما، على الأرجح في المرحلة الأولى لا شيء سوى محاولة ردع حزب الله بالتلويح بضربات جوية، وزيادة عدد وكفاءة قوات اليونيفيل في الجنوب، ومحاولة نشرها على الحدود السورية.
هذا يعني أن الصراع في لبنان لن يحسم في النهاية من الداخل، هنا يأتي الدور على سورية.
حين سأل مذيع الجزيرة السيد سيمور هيرش الصحفي الأمريكي الواسع الاطلاع عن النوايا الأمريكية الحقيقية تجاه الحكم في سورية أجابه ببرود وثقة (ليس الآن بل في 2009)، فاذا تذكرنا ماقاله السيد نيكولا ميشال من ان تشكيل المحكمة سيحتاج لسنة تقريبا، يكون لنا ان نقدر أن عاما ونصف العام- ربما -يفصلنا عن الهجوم الدولي الذي يجري التحضير له تحت راية العدالة والقرارات الدولية، واذا لم تحسم مسألة تحجيم ايران النووية خلال تلك الفترة فربما تكون ساحة المعركة في لبنان وسورية وليس في طهران.
من جهتها، فقد اختارت ايران التصعيد الحذر لتظل ممسكة بزمام المبادرة، وستعمل كل ما في وسعها لتعزيز التحالف مع حزب الله وسورية وتحصين تلك الجبهة من الاختراق. لكن يبقى الوضع في العراق كجرح نازف في الاستراتيجية الأمريكية، ومعه يبقى السؤال الى متى ستظل الادارة الأمريكية الحالية قادرة على تحمل الخسائر بما في ذلك تدهور شعبيتها الى أدنى حد.
فوق يوميات الصراع يبدو التدويل استكمالا لمشروع الهيمنة الأمريكي المتعثر في العراق، وربما اعادة اكتشاف أدوات جديدة لذلك المشروع، أدوات أقل كلفة وأكثر مشروعية، وهو في حقيقة الأمر جزء من الاستراتيجية الأمريكية لتفكيك الدول في المنطقة والغاء مقومات السيادة الحقيقية لها. دول مفككة بفيدراليات وسلطة مركزية واهية، وحكام أشبه برؤساء بلديات، وحدود مفتوحة بدون حدود.
وريثما تنضج الظروف للحملة القادمة بعد عام ونيف، لا تضيع الولايات المتحدة الوقت في ارسال الرسائل المخادعة لسورية، من أجل منع الحكم من التفكير في مخارج حقيقية لتحصين البلاد، يأتي في مقدمتها مراجعة الوضع الداخلي، واشراك الشعب في الدفاع عن بلده، وقبل ذلك اطلاق الحريات العامة، والمصالحة الوطنية، وانهاء الفساد.
بعد نحو عام ربما تكون قد ضاعت آخر الفرص لاصلاح الوضع الداخلي، وحينها قد نكتشف أن نشوة الانتصار التي يشعر بها البعض لدى قدوم الوفود الأمريكية والأوربية الى دمشق لم تكن في محلها، بل كان ذلك مقصودا كجرعة للتخدير وتمرير الوقت ريثما تكتمل الاستعدادات لفتح الصراع، لكن ذلك الاكتشاف سيكون متأخرا للغاية.