اذا تجاوزنا الحيز الأخلاقي والعاطفي للمسألة الوطنية باتجاه الحيز الفكري – السياسي (مع احترامنا الشديد للحيز الأول) توجب علينا في البدء تحديد كنه المسألة الوطنية قبل المباشرة في التعامل معها بأي اتجاه، ومن أية زاوية.
هنا ينبغي التفكير في تاريخية المسألة الوطنية، في نسبيتها، في شروطها، فالمسألة الوطنية اليوم ليست هي المسألة الوطنية في سورية قبل الاستقلال، سورية المحتلة من قبل فرنسا كانت المسألة الوطنية فيها تتلخص بأمرين الوحدة والاستقلال، في سورية الخمسينات تحول جوهر المسألة الوطنية ليتمثل في مقاومة الضغوط الخارجية التي كانت تستهدف القرار الوطني وتريد الحاق سورية تارة بصورة غير مباشرة بحلف بغداد وتارة بصورة مباشرة بالسياسة الأمريكية وريثة الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية في المنطقة، وعلى نفس القدر من الأهمية مواجهة الخطر الصهيوني التوسعي.
في الخمسينات حدث صراع حول المسألة الوطنية بين الطبقة السياسية التقليدية التي تمثل كبار الملاك والبورجوازية و التي لم تكن تمانع (في جزء منها على الأقل) من السير على طريق الالتحاق بالسياسة الأمريكية وبين الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية (هناك وثائق تتناول مباحثات كانت تجري في الظل بين سياسيين سوريين تقليديين وبين سياسيين اسرائيليين بهدف الاعتراف باسرائيل والتعامل معها ففي شهر آب من عام 1936 التقى بعض السياسيين التقليديين السوريين بوفد الوكالة اليهودية والذي يضم الياهو ساسون والياهو ايلات، حيث تعهدوا لهم بأستخدام نفوذهم لدى الدول العظمى خاصة فرنسا لمنح سوريا استقلالها ومزيدا من الأمتيازات، فيما اذا ساعدت سوريا اليهود في اقامة دولتهم في فلسطين وكان رد السياسيين السوريين في أن اتفاقا يهوديا عربيا سيجلب فائدة اقتصادية لأرض فلسطين ولسوريا، وان السوريين سيسعدون كثيرا اذا عم الرخاء والهدوء في ارض اسرائيل وسوريا معاً وفي عام 1936 أجتمع جميل مردم مع الياهو ساسون مندوب الوكالة اليهودية في دمشق واتفق معه على أنشاء دولة يهودية في فلسطين كما وعد بالضغط على الفلسطينيين بالتسليم بذلك فيما أذا ساعد اليهود الحكومة السورية في تحقيق مطالبها مع حكومة ليون !.)
وهناك العلاقة التي تم كشفها بين حسني الزعيم والسفارة الأمريكية والتي أسست لانقلابه المشؤوم يقول أوين في كتابه (أكرم الحوراني): (لقد تأكد حديثاً بعد السماح بنشر بعض الوثائق السرية، وبعد ما يقرب من أربعين عاماً من انقلاب حسني الزعيم من تورط الولايات المتحدة بأول انقلاب عسكري في العالم العربي).
صعود التحالف بين الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية أسس لتجدد المسألة الوطنية وصولا نحو الوحدة في 1958.
الآن دعونا نقفز قليلا لنتفادى السقوط في نزعة الاستعراض التاريخي نحو المسألة الوطنية كما يطرحها الوضع الراهن.
تواجه المسألة الوطنية في سورية تهديدا لم تواجهه بعد الاستقلال هو تهديد التفتيت، هل هو تهديد حقيقي؟ أعتقد ان من الحماقة بمكان الاستخفاف بذلك التهديد بعد ما حصل في العراق، أي اننا عدنا بطريقة أو بأخرى للتهديد الذي واجهته سورية قبل الاستقلال، هذا مؤلم ولكن يجب الاعتراف به من أجل مواجهته وليس من أجل الخضوع له.
الى جانب الخطر السابق هناك استحقاق تحرير الجولان كجزء من المسألة الوطنية في مضمونها الراهن اضافة لمواجهة نزعة الهيمنة والتوسع الصهيونية.
كما تتضمن المسألة الوطنية تحديا خطيرا يتمثل في مواجهة نزعة الهيمنة الأمريكية على سورية والمنطقة وبالتالي قضم وتحجيم القرار الوطني وصولا نحو الالحاق والتبعية السياسية الكاملة.
ذلك باختصار شديد هو مضمون المسألة الوطنية في سورية اليوم.
اذا لم نتفق على مضمون المسألة الوطنية لايمكن الحكم على وطنية هذا التيار او عدمها، ما يحيلنا التيار الليبرالي اليه هو وطنية ملتبسة، وطنية لا تأخذ تهديد التفتيت على محمل الجد، تتساهل فيه، أحيانا تمهد له، الديمقراطية التوافقية، فكرة الفدراليات، المكونات المذهبية والعرقية، كل تلك المفاهيم تحمل بذرة التفتيت، دون أن نتفلسف لننظر الى الجوارين العراقي واللبناني ولنفكر كم ساهمت تلك المفاهيم في الكارثة في الحالة العراقية والأزمة في الحالة اللبنانية، لم تكن جزءا من الحل، بقدر ما كانت جزءا من المشكلة، المهزلة أن الليبراليين يريدون لنا السير في الطريق ذاته بعد ان نمحي من ذاكرتنا أن نهايته هي الهاوية.
في استحقاق تحرير الجولان هناك خياران، واحد يشبه خيار كامب ديفيد، واتفاقية
أوسلو، ووادي عربة، والآخر هو خيار التحرير بدون تنازل على الطريقة اللبنانية، بدهي ان المضي في الخيار الأول يمثل وطنية ناقصة، وطنية تحمل الاستكانة والمهانة، لا يمكن لاسرائيل اعادة الجولان او جزء منها في ظل توازن القوى الحالي بدون شروط قاسية، وتلك تجربة مصر والأردن والفلسطينيين، مع ذلك فحتى صفقة كهذه مشكوك فيها.
المسألة الوطنية والعولمة
تطرح العولمة تفكيك الدول الكبيرة (الاتحاد السوفييتي، يوغوسلافيا..) باعتبار الدول الكبرى عقبة في وجه الاندماج باقتصاد العولمة وثقافة العولمة، وهناك تناقض نوعي بين سعي العولمة لتنميط الثقافة وبالتالي القضاء على الثقافات الأخرى وبين الثقافة العربية العميقة المحتوى والتي تنتمي الى جذور حضارية مختلفة، هذا التناقض يضفي على الصراع الجاري طابعا أكثر حدة وشمولا.
في المعادلات الاقليمية للمنطقة العربية يحتل أمن ومستقبل اسرائيل حيزا هاما في الاستراتيجية الأمريكية – الأطلسية، في الحقيقة لا يمكن فهم وتفسير حرب العراق بدون هذا العامل، كانت هناك خطة واضحة لتدمير العراق كدولة لصالح اسرائيل ولصالح العولمة والاستراتيجية الأمريكية للهيمنة.
في الصراع الجاري اليوم في المنطقة لا يمكن ان توجد نزعة وطنية حقيقية في سورية بمعزل عن مقاومة الهيمنة الأمريكية، هناك احتلال للعراق واستلاب حقيقي للقرار السياسي للدول العربية وهناك مقاومة للاحتلال، نطاق المعركة شئنا أم أبينا هو المنطقة بكاملها، في النهاية اما ان تخضع المنطقة بكاملها للهيمنة الأمريكية او ان تتحرر منها ما عدا ذلك ليس سوى هدنة بين معركتين.
هل يمكن الجمع بين وطنية حقيقية وبين القبول بالهيمنة الأمريكية وفتح الباب أمام مشاريعها التدميرية؟
تهديد التفتيت ليس داخليا بحتا، كما في العراق نقطة الخطر هي تمفصل أمراض المجتمع الموروثة مع خطط الهيمنة الخارجية، بالتالي لايوجد معنى للسعي لحماية الوحدة الوطنية من جهة وفتح الباب أمام التدخل الخارجي من جهة أخرى.
حماية الوحدة الوطنية تقتضي ليس فقط معالجة الأمراض والعلل الداخلية ولكن أيضا مقاومة الهيمنة والتدخل وتلك مسألة تستحق التأمل.
مخاطر الليبرالية
من قلب النقاشات الدائرة اليوم والفروقات بين مختلف التيارات السياسية ستنبثق قوى المستقبل، التيارات الليبرالية بدات تخرج من الشرنقة، أصبحت أكثر وضوحا، أجرأ من السابق، وما هو أهم امتلاكها المبادرة في الحركة، واحتلالها موقعا متقدما ضمن الساحة الثقافية، الليبراليون اليوم موضة اللحظة، (حملة مشعل الحداثة والعصر) وفقا لوهم شائع، بالتالي ما لم يتم خوض صراع فكري- سياسي ضدهم، ما لم يتم فضح فساد نهجهم، سيتم تحويل المعارضة الوطنية الديمقراطية الى ماركة مسجلة باسم التيار الليبرالي، كما سيتهدد التيار الوطني – القومي – الديمقراطي بازاحته عن ساحة الفعل السياسي وتحوله الى العزلة.
الديمقراطية والمسألة الوطنية
للديمقراطية أكثر من مدلول، من أهمها المشاركة الشعبية، بغض النظر عن طبيعة أي نظام ديمقراطي وخصوصيته، ما لم يتمكن من توسيع قاعدته الاجتماعية، واستنهاض المشاركة لأوسع الفئات ستبقى ديمقراطيته ناقصة ومشوهة.
لفترة طويلة حملت الديمقراطية الغربية طابع الديمقراطية الطبقية ومعها الديمقراطية العنصرية، ديمقراطية نعم ولكن لطبقة معينة، خارجها لا يوجد ديمقراطية بمعنى التمثيل السياسي الحقيقي داخل السلطة، لكن يوجد حريات للتعبير، مع ذلك كان يضيق أحيانا هامش حرية التعبير الى أقصى حد ومثال ذلك عصر المكارثية في أمريكا، في الخمسينات من القرن الماضي حيث كان يتم تصفية الخصوم السياسيين لمجرد آرائهم.
في الخمسينات من القرن الماضي تميزت التجربة الديمقراطية في سورية بكونها أرست الأساس الاجتماعي – السياسي لتجدد وصعود المسألة الوطنية، ما كان بالامكان لسورية ان تواجه كل الضغوط والمؤامرات الخارجية بدون الديمقراطية السياسية، تلك هي العبرة من تجربة الخمسينات، اليوم بدون ديمقراطية لا يمكن حماية الوحدة الوطنية، ولا التصدي الحقيقي للهيمنة الخارجية، ولا مواجهة المشروع الصهيوني وتحرير الجولان بطريقة مشرفة.
الديمقراطية بهذا المعنى أصبحت شرطا للمسألة الوطنية، لذلك لا يوجد أرضية اجتماعية – سياسية صلبة لوطنية الاستبداد.
هذه الاستنتاجات ليست عامة، غير مقيدة، بالأحرى هي مرتبطة بالمآل الذي انتهت اليه المسألة الوطنية في شروطها التاريخية – الاجتماعية.