يمكننا الآن أن نترك العنصرية القانونية لننتقل إلى مدى تغلغل الرؤية العنصرية في الوجدان الإسرائيلي. في مقال لـ"يوري أفنيري" (نُشر على موقعه الإلكتروني في 28 أبريل2007 بعنوان "لم يضع الأمل بعد")، يبّين الكاتب أن النزعة الديموجرافية الإقصائية تتبدى في كثير من رموز الدولة الصهيونية، التي تدعي أنها يهودية. الكاتب يشير إلى النشيد الوطني الصهيوني الإسرائيلي، فيقول: "إن مشكلة هذا النشيد لا تكمن في كلماته وليس في اللحن أيضاً، الذي تمت "سرقته" من أوروبا الشرقية. المشكلة هي أنها تُخرج من الدائرة المواطنين العرب، الذين أصبحوا يشكلون الآن أكثر من 20% من السكان في الدولة. لا أريد أن أخوض هنا مرة أخرى في السؤال فيما إذا كانت إسرائيل هي "دولة يهودية". ما معنى ذلك؟ دولة الدين اليهودي فيها أغلبية يهودية أم لا؟ على من يريد ذلك أن يسأل نفسه أيضاً: هل صحيح أن نجعل كل مواطن عربي يشعر بأنه من دون انتماء؟ إن هذه دولة غريبة ومعادية؟ يمكن لـ"هتكيفا" أن تظل نشيد الحركة الصهيونية، ويمكن لليهود أن ينشدوها في لوس أنجلوس وفي "كريات ملاخي". ولكنها لا يجب أن تكون نشيد الدولة الوطني .حان الوقت للنظر في تبديل النشيد الوطني، ليس بهدف إرضاء المواطنين العرب فحسب، بل كذلك بهدف إرضاء أنفسنا: ليكون لنا نشيد وطني يجسد واقعنا، وبهذه الروح قدمت قبل 38 سنة اقتراح قانون للكنيست ولم يتم قبوله. لقد حان الوقت لتجديد الفكرة".
"هذا صحيح بالنسبة للعَلم أيضاً. العَلم الأزرق والأبيض هو عَلم الحركة الصهيونية. لقد أخذوا "الطاليت" (الشال الذي يرتديه اليهود أثناء الصلاة) وأضافوا إليه نجمة داوود (وهي شعار يهودي قديم ظهر في حضارات أخرى أيضاً) وكوّنوا عَلماً وطنياً جديداً. إن فيه نقصاً واضحاً: لوناه، الأزرق والأبيض، يختفيان على خلفية السماء، الغيوم والمباني. والسلبية الرئيسية في العلم تكمن في أنه يخرج كل الجمهور العربي من عائلة الدولة. العربي الذي يؤدي التحية للعلم يكون كاذباً في أعماق نفسه حين يحاول التعاطف مع رموز مثل "الطاليت" ونجمة داوود، اللذين ينكرانه ولا يعنيان له شيئاً. ناهيك عن أن العديد من العرب يؤمنون بأن الخطين الأزرقين يشيران إلى نهري النيل والفرات، وأن العلم يشير إلى نية الصهاينة في إقامة دولة يهودية بموجب الوعد في الكتاب المقدس (التكوين، 15): "لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ". هذه ليست حقيقة، ولكن هذا يزيد الأمر صعوبة بالنسبة للعلم. هدف العَلم الوطني هو التوحيد، أما هذا العَلم فهو يقسّم. إنه لا يعزف على أوتار قلب جمهور مهم في الدولة. إنه يبعدهم. ولا يبعدهم وحدهم. كما كتب "جدعون ليفي" مؤخراً، لقد تم "امتلاكه" من قبل "اليمين المتطرف"، وهو يرتبط في قلوب دعاة السلام والعدل بالتنكيل على الحواجز، بالمستوطنات وبالاحتلال".
ظهر عام 2004 كتاب بعنوان نحو قبر فاغراً فاه – أزمة المجتمع الإسرائيلي، ألفه "ميخائيل فارشافشكي" (ميكادو) وترجمه مازن الحسيني (2004). والكتاب يعطينا فرصة أن ندخل في العقل الإسرائيلي والمزاج العنصري فيه. يقول المؤلف إنه تجول في إسرائيل لعدة شهور، وكتب بأمانة الشعارات التي وجدها في القدس. فوجد أن الشعارات تنقع عنصرية وكرهاً، وفيما يلي بعض الأمثلة:
– "ترانسفير = السلام + الأمن" (بوستر معلق في جميع أنحاء القدس).
– "الأردن هو الدولة الفلسطينية – ترانسفير الآن!" (مئات البوسترات على الطريق السريع بين تل أبيب والقدس).
– "رَحِّلوا العدو العربي" (بوستر).
– "رَحِّلوا عرفات!" (بوستر).
– "اضربوا العرب – حطموا العرب" (بوسترات).
– "لا لليساريين، لا للتفجيرات" (كتابة على الحائط).
– "إما نحن أو هم – ترانسفير" (بوسترات).
– "غادر ثلاثمائة ألف منهم إلى الأردن – ترانسفير" (بوسترات).
– "كاهانا على حق – اطردوا العرب" (كتابة على الحائط).
– "الموت للعرب" (كتابة على الحائط).
– "كلا لوسائل الإعلام المُعادية".
– "أنا أشتري من يهود فقط" (بوستر).
– "حاكموا مجرمي أوسلو" (ملصق وبوستر وكتابة على الحائط).
– "السلام كارثة، نريد الحرب" (ملصق صغير).
– "كلا لفلسطين !" (كتابة على الحائط).
– "الخليل للأبد" (ملصق صغير).
– "شارون يعطي الإرهابيين دولة" (بوسترات بمناسبة الانتخابات التمهيدية لحزب الليكود).
ويعلق الكاتب على هذه الشعارات وهذا المزاج العنصري بقوله: "الشعارات الواردة في "البوسترات" والملصقات التي أوردناها سابقاً، تبيّن أن تعبير الجمهور عن العنصرية أصبح الآن شيئاً عاماً، واكتسب مشروعية بين الأحزاب السياسية التي تقف في مقدمة الحياة السياسية الإسرائيلية، والممثلة في الحكومة. وتدور العنصرية حول محورين اثنين، لو أخذا سوياً، سيشكلان فلسفة السياسة الجديدة فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني: القمع والترحيل".
ثم يحاول الكاتب تفسير هذا المزاج العنصري فيقول: "تضرب وحشية السنوات الأخيرة جذورها في طريقتيْ سلوك عميقتين لدى البشر: الخوف والرغبة في الانتقام. 1- الخوف: درج الساسة الإسرائيليون على تنمية الخوف، والتلاعب به في أكثر أشكاله انحطاطاً وبدائية، دون محاولة على الإطلاق لإضفاء شيء من المدنيّة على ذلك الخوف. ويتلخص قرع الطبول في: أنهم -أي الفلسطينيون- يريدون ذبحكم؛ إنهم يلقون عليكم قنابل؛ يجب علينا أن نرد بلا تردد أو وازع أو أي تفكير بالعواقب، حتى تلك العواقب التي تتعلق بسلامة الإسرائيليين أنفسهم. 2- رغبة الضحية في الانتقام: هذه الرغبة -كما هو الحال في أي مكان آخر- تُبقي على دوامة العنف: إذا فجَّرت نفسك في تل أبيب سوف أقصف غزة، وإذا قتلت ثلاثة من أبنائي سوف أقتل خمسة من أبنائك.
ويخلص الكاتب من كل هذا بالقول إن ثمة هدفاً سياسياً مزدوجاً لمنطق الانتقام والضربات "الاستباقية" والثأر. فبالنسبة لأكثر الساسة الإسرائيليين اعتدالاً -بشكل خاص حزب "العمل" وجزء من قيادة الجيش العليا- هذا أسلوب للقضاء على المقاومة التي مضى الآن على استمرارها أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وحَمْل الفلسطينيين على القبول بـ"حل" ترفضه حتى الآن جميع تيارات الرأي العام الفلسطيني. أما بالنسبة للمتطرفين، فإن هدف العنف في المناطق المحتلة هو حمل الفلسطينيين على الرحيل -الأمر الذي يسميه حزب مولديت "الترانسفير الطوعي"– أو أن يؤدي إلى تصعيد ينتهي بعملية تطهير عرقي على نطاق واسع.
وفي نهاية هذا الجزء من الكتاب، يحلل الكاتب الصور المجازية المهيمنة على الوجدان الإسرائيلي، فيقول: "لم تعد "نجمة داوود" (التي تُسمى بالعبرية "درع داوود") هي رمز دولة إسرائيل، إذ أصبح الرمز هو الجرافة "البيلدوزر". فالجرافات تستخدم في كل مكان، في الطرق والأحياء، تخلع الأشجار و"البيّارات". باختصار، لتدمير الطبيعة والثقافة. عندما يُطلق لها العنان، لا تتوقف الجرارات عند الخط الأخضر. إن لها الكلمة العليا في إسرائيل نفسها: تتحكم كما تشاء دون أي اعتبار للبيئة أو احترام البيئة لها.
والله أعلم.