يعد وعد "بلفور"، أهم حدث في تاريخ الصهيونية، ومن خلاله تمّ توقيع عقد صامت بين الحضارة الغربية وقيادة المجموعة البشرية اليهودية في الغرب، وقد تمّ بمقتضاه تأسيس وطن قومي في فلسطين لليهود باعتبارهم عنصراً سكانياً مستقلاً يضمن الغرب أمنه ويحقق لسكانه مستوى معيشياً مرتفعاً على أن يضطلعوا هم بدور المدافع عن المصالح الاستراتيجية الغربية في المنطقة. وإذا أردنا تبسيط قانون هذه البنية لقلنا إن ثمة دعماً مالياً لعنصر سكاني نظير دور استراتيجي، فكأن الدور الذي يلعبه هذا التجمع البشري الغربي هو السلعة الأساسية التي ينتجها والتي يودّ الغرب الحصول عليها: القتال نظير المال، وما عدا ذلك ديباجات اعتذارية وتفاصيل فرعية.
وهذا الإدراك بأن الدولة اليهودية دولة تابعة، مجرد مستعمَرة، دولة وظيفية تعتمد على الدعم المالي والعسكري الغربي، هو الصفة المميزة لجميع الاتجاهات الصهيونية، "يسارية" كانت أم "يمينية". فـ"نوردو"، على سبيل المثال، صرح في خطاب له في لندن في 16 يونيو 1920 بأنه يرى أن الدولة اليهودية ستكون "بلداً تحت وصاية" بريطانيا العظمى، وأن اليهود سيكونون "حراساً يقفون على طول الطريق الذي تحفه المخاطر والذي يمتد عبر الشرقين الأدنى والمتوسط حتى حدود الهند". وقد وصف "ريتشارد كروسمان"، عضو البرلمان البريطاني العمالي، صديقه الحميم "وايزمان" بأنه كان من المؤمنين إيماناً راسخاً بـ"مزايا الإمبراطورية"، وأنه كان يرى أن الاستيطان اليهودي في فلسطين ضمان أكيد لسلامة انجلترا، ولاسيما، "فيما يتعلق بقناة السويس". وقد ذكر "وايزمان"، في خطاب كتبه لـ"تشرشل" عام 1920 وإن لم يرسله، ما أسماه بـ"المصالح المشتركة" و"التحالف الطبيعي" بين الإمبراطورية والدولة الصهيونية.
وحروب إسرائيل المتكررة لا يمكن فهمها فهماً كاملاً إلا بوضعها داخل إطار المصالح والتحركات الإمبريالية في الشرق الأوسط. وقد يأخذ هذا شكلاً واضحاً، كما هو الحال عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي ضد مصر، حيث لعبت إسرائيل دور مخلب القط دون مواربة، أو يأخذ شكلاً مستمراً، كما هو الحال عام 1982 حين قامت إسرائيل بغزو لبنان، لتصفية المقاومة الفلسطينية ولفرض السلام الأميركي على المنطقة.
والدولة الوظيفية الصهيونية على رغم أنها ليست استثماراً اقتصادياً، فإنها مع هذا تُحقِّق ريعاً اقتصادياً عالياً غير مباشر للدولة الإمبريالية الراعية لأنها تقوم بضرب تلك النظم القومية العربية التي تحاول رفع سعر المواد الخام أو حتى التحكم في بيعها وفي أسعارها، أو التي تختط طريقاً تنموياً أو تتبنى سياسة داخلية وخارجية تهدد المصالح الغربية بالخطر. ولكن مع هذا يجب أن نتذكر أن الدولة الصهيونية بالأساس استثمار استراتيجي، دولة وظيفية تقوم بوظيفة محددة هي خدمة المصالح الغربية.
وقد أدرك الصهاينة هذه الوظيفة، كما أدركوا أنهم كلما زاد ما يحققونه من ربح لراعيهم من خلال أدائهم مهام وظيفتهم زادت فرص استمرار الدعم وفرص البقاء. ومن هنا كان تأكيدهم المستمر وإلحاحهم الدائم على الجدوى الاقتصادية للوظيفة، التي يؤديها التجمُّع الصهيوني، وعلى مقدار النفع الذي سيعود على الراعي والمموِّل (الإمبريالي)، تماماً مثلما يفعل أي شخص رشيد مع أية سلعة تُباع وتُشتَرى. وبالفعل، نجد أنه، في وقت كان فيه المشروع الصهيوني، لا يزال في إطار النظرية والأُمنية، كان الزعماء الصهاينة يؤكدون، الواحد تلو الآخر، أن تمويل مثل هذا المشروع الاستيطاني الصهيوني مسألة مربحة للدولة التي ستستثمر فيه. ففي عام 1920 أكد "ماكس نوردو" أن رجال السياسة البريطانيين الذين كانت تواجههم مشكلة التوازنات الدولية، قاموا بحساباتهم الدقيقة وتوصلوا إلى أن اليهود يعتبرون في الحقيقة "مصدر قوة" و"ربما مصدر نفع" أيضاً لبريطانيا وحلفائهم، ومن ثم عرضت عليهم فلسطين. والاحتفاظ بالدولة الصهيونية كقاعدة للمصالح الغربية عملية غير مكلفة بالقياس لأي عملية بديلة. وقد أدرك "هرتزل" -بمكره ودهائه- أن ثورة الفلاحين المصريين ستجعل مصر مكلفة جداً كقاعدة عسكرية بالنسبة لإنجلترا، ولذا فقد أشار إلى أن المشروع الصهيوني، بتكاليفه الزهيدة، شيء مُغرٍ. واستخدم "وايزمان" الصورة المجازية التجارية التعاقدية نفسها حين كتب لتشرشل قائلاً: "إن السياسة الصهيونية في فلسطين ليست على الإطلاق تبديداً للموارد، وإنما هي التأمين الضروري الذي نعطيه لك بسعر أرخص من أن يحلم به أي فرد آخر". وأفاض "وايزمان" في شرح وجهة نظره، مبيناً أن الاستعمار البريطاني، بتأييده المنظمة الصهيونية، قد وضع ثقته في مجموعة مستعدة لتَحمُّل قدر كبير من المسؤولية المادية عن الاستعمار. وإذا تبيَّن أن تكاليف الحامية البريطانية ستكون مرتفعة، عندئذ يمكن تنظيم وتسليح المستعمرين اليهود. ثم يتساءل "وايزمان" بشيء من الخطابية وبكثير من التوتر: "هل تمت أية عملية استعمارية أخرى تحت ظروف مواتية أكثر من هذه: أن تجد الحكومة البريطانية أمامها منظمة لها دخل كبير ولديها استعداد لأن تضطلع بجزء من مسؤولياتها التي تكلفها الكثير؟". إن الصوت هنا صوت بائع متجول يجيد الإعلان عن السلعة، حتى لو كانت كيانه ووجوده.
وقد استمرت هذه النغمة في الخطاب السياسي والإعلامي الصهيوني فيعقوب ميريدور وزير التخطيط والتنسيق الاقتصادي (1982 - 1984)، في حديث له لإذاعة الجيش الأميركي، ركَّز على مدى رخص وانخفاض ثمن إسرائيل كقاعدة للمصالح الأميركية. فإسرائيل، حسبما أكد الوزير الإسرائيلي، تحل محل عشر من حاملات الطائرات، وقدَّم الوزير الإسرائيلي كشف حساب بسيطاً جاء فيه أن تكلفة بناء الحاملات العشر هذه تبلغ 50 بليون دولار. ثم أضاف الوزير، وهو الخبير بالأمور الاقتصادية، أنه لو دفعت الولايات المتحدة فائدة قدرها 10% على تكاليف تشييد هذه الحاملات (وقد كان الوزير متسامحاً مع الولايات المتحدة فلم يذكر تكلفة الجنود الذين ستحملهم حاملات الطائرات، أو الحرج السياسي الذي سيسبّبه وجود مثل هذه القوات)، لو دفعت الولايات المتحدة مثل هذه الفائدة لبلغت خمسة بلايين دولار. وحيث إن المعـونة الأميركية لا تصل بأي حال إلى هذا القدر، فقد اختتم "ميريدور" حديثه بملحوظة فكاهية ولكنها في الوقت نفسه بالغة الدلالة، إذ قال: "أين إذن بقية المبلغ؟". ويبدو أن هذا هو الخط الإعلامي الإسرائيلي في مواجهة الأميركيين، ففي العام نفسه بيَّن أرييل شارون أن الخدمات التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة تفوق في قيمتها ما تقدمه الولايات المتحدة من معونات لإسرائيل. ثم قال بشكل شبه جديّ ما قاله "ميريدور" بشكل فكاهي: "إن الولايات المتحدة لا تزال مدينة لنا بسبعين مليـاراً من الدولارات".
وتَرد الفكرة نفسها، كما يرد كشف حساب مماثل، في مقال لشلومو ماعوز المحرر الاقتصادي لـ"الجيروساليم بوست"، بعنوان "صفقة استراتيجية" يشير فيه إلى أن الإسرائيليين يعرفون جيداً أن مساعدة الولايات المتحدة للدولة الصهيونية هي في جوهرها مساعدة لخدمة مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية. فالولايات المتحدة تدفع سنوياً 30 بليون دولار لقواتها في حلف شمال الأطلسي و40 بليوناً للوفاء بالتزاماتها في المحيط الهادي. وبالتالي، فإن مساعداتها العسكرية والمدنية لإسرائيل صغيرة بشكل مضحك، إذا ما قُورنت بالمبالغ آنفة الذكر، وخصوصاً إذا ما تم النظر إلى مثل هذه المساعدات باعتبارها استثماراً لحماية مصالح أميركا في المنطقة.
هذا هو المفهوم الغربي لإسرائيل. فالمدافعون عنها في الولايات المتحدة لا يلجأون أبداً إلى الحديث عن المغانم الاقتصادية الثانوية أو المغارم الاقتصادية التافهة وإنما يشيرون دائماً إلى الحليف، الذي يمكن التعويل عليه والمغانم الاستراتيجية الأساسية الشاملة الهائلة. وقد عبَّرت مجلة الإيكونومست (في 20 يوليو 1985) عن موقف هؤلاء بقولها: إذا كان بإمكان أميركا أن تدفع 30 بليون دولار كل عام ضمن تكاليف حلف الأطلسي (لتحقيق أهداف استراتيجية)، فإن من المؤكد أن إسرائيل، وهي المخفر الأمامي والقاعدة المحتملة، تستحق مبلغاً تافهاً (نحو 4 بلايين دولار آنذاك).
وقد لخص الصحفي الإسرائيلي "سبير كل" الموضوعات السابقة فقال إن الزعماء الإسرائيليين مضطرون دائماً لأن يذكِّروا القيادة الأميركية في واشنطن بمقدار تكلفة وجود الجيش الأميركي في غرب أوروبا بالمقارنة بتلك الهبات الممنوحة لإسرائيل، بيَّن أن الجيش الإسرائيلي ليس خدمة حربية كامنة فحسب، وإنما هو أيضاً خدمة رخيصة، بل إنها أرخص من أي خيار عسكري آخر محتمل لأميركا في المنطقة. وحسبما جاء في مقاله، يوافق البنتاجون على هذا الرأي، ولذا لا يبدي خبراؤه أي تأفف إزاء الحساب الذي يقدمه الإسرائيليون، حتى أن هناك من يرى أنه رخيص نسبياً، الأمر الذي يدل على أن نبوءات الزعماء الصهاينة وحساباتهم، بشأن الجيب الصهيوني الوظيفي، كانت تتسم بالدقة، وأن السلعة الصهيونية مربحة ولاشك، وأن العقد النفعي الذي وُقِّع بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية بشأن يهود العالم لا يزال نافذاً حتى الآن، وأن عائده لا يزال مرتفعاً.