غابت النبرة الاحتفالية عن خطاب الرئيس السوري بشار الأسد، لمناسبة أدائه اليمين الدستورية لولايته الرئاسية الثانية، أمس، وطغت بالمقابل لهجة التهيّب والتحذير من مخاطر مصيرية تتهدد هذه المنطقة من العالم في مدى الشهور الستة المتبقية من هذا العام.
كذلك فقد غاب لبنان، ولأول مرة، عن خطاب مركزي للرئيس السوري، في حين أن «موضوع لبنان» كان حاضراً في مقاصد الخطاب عبر الإيماءات والإيحاءات الكثيرة التي حفل بها.
واضح أن الرئيس بشار الأسد قد تجنّب، وبقرار واعٍ، الخوض في «المسألة اللبنانية» بتفاصيلها المنهكة والتي تتوالد من ذاتها أو تستورد جاهزة..
والأرجح أن اللبنانيين الذين تابعوا هذا الخطاب باهتمام قد استقبلوا ابتعاده الواعي والمقصود عن أزمتهم التي تزداد تعقيداً وحدّة، على مدار الساعة، بشيء من الارتياح. لقد تلقوا رسالته بإيحاءاتها الواضحة والتي تقول بحسم مطلق: إن أمّ المشكلات وولاّدة الأزمات والاضطرابات في هذه المنطقة هي السياسة المغامرة التي تعتمدها الإدارة الأميركية، وتخص بها العرب دون غيرهم من الشعوب:
«لا نعيش في جزيرة. نحن نتأثر بكل ما حولنا. نتأثر بالعراق، ونتأثر بلبنان، ونتأثر بفلسطين، وربما بما هو أبعد». والقصد واضح: الاحتلال الأميركي للعراق بكل تداعياته المدمرة لهذه الدولة التي كانت معقد آمال العرب، والحماية الأميركية المطلقة للاحتلال الإسرائيلي وممارساته الوحشية في فلسطين، والتدخل الأميركي الفج في لبنان، والذي يكاد يشمل مناحي حياته جميعاً.
يفتقد الرئيس السوري «المجتمع الدولي» كملجأ للشعوب المستضعفة والتي تحاول أن تستعيد حقوقها المضيّعة، سواء في أرضها أو في تقرير مصيرها بإرادتها، ويرى ذلك نتيجة مباشرة لسياسة هذه الإدارة الأميركية التي تعتمد منطق القوة: «لا يوجد مجتمع دولي يظلل الجميع. فلا توجد بالتالي سياسة دولية تؤمّن شروط العدالة والاحترام في العلاقات بين الدول..».
لعل «طيف» لبنان يحضر في كل جملة تشير إلى المجتمع الدولي، ثم يطغى حضوره عبر القرارات العديدة لمجلس الأمن والتي استصدرت خصيصاً من أجله وعلى نيته، بطلب من بعض سلطته وأحياناً بلا طلب. ومجلس الأمن، كما يوحي خطاب الرئيس الأسد، هو «الاسم الحركي» للإدارة الأميركية.. ربما لهذا تنضح كلمات الخطاب بالمرارة من هذا الاستهداف المقصود لسوريا، وعبر مجلس الأمن، إضافة إلى الاستهداف المباشر بالتصريحات التي كثيراً ما نطقت بالتهديد أو ألمحت إليه أو لوّحت به.
وليس من باب الطرافة أو التندر المثال الذي استخدمه الرئيس الأسد في حديثه عن الدور الأميركي لمجلس الأمن: «لا تستغربوا أن يأتي يوم يقولون فيه إن دعم الفقراء هو دعم للإرهاب! وربما يصدر قرار عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع! لم يعد أي شيء مستغرباً»!
السياسة الأميركية في ظل إدارة جورج بوش هي الهاجس وهي مصدر الخطر!
ومما يعزز شعور الرئيس السوري بخطر هذه السياسة الأميركية «ان بعض الدول الأوروبية الفاعلة لجأت إلى ربط سياستها بسياسة واشنطن آلياً، تجاه منطقتنا والعالم»! ... فلا هي تستطيع أن تبادر، مع أنها تستطيع أن تخادع: «يظهرون خلال اللقاء معنا اقتناعاً، لكنهم يخرجون إلى الإعلام ليتحدثوا في اتجاه مختلف تماماً. لأن البيان مكتوب مسبقاً. هم لم يأتوا للحوار... هم أتوا لنقل الرسائل»!
باختصار إن إدارة بوش هي مصدر الخطر، و«النفاق الأوروبي» يزيده حدة. فأن تكون واشنطن المصدر الوحيد للقرار، على المستوى الكوني، وعبر تسخير مجلس الأمن أو من دونه، ليس مما يطمئن شعوب العالم... وكذلك أن يتحول الأوروبيون حملة رسائل ـ إنذارات. لقد حوّلت هذه الإدارة «المجتمع الدولي» إلى أداة تهديد بالعقوبات.
يخلص الرئيس السوري إلى استنتاج طريف فيقول متهكماً: «إذا كانت سوريا دولة ضعيفة فلماذا تمارس عليها كل هذه الضغوط... وإذا كانت على هذا القدر من القوة فأعطونا مقعداً دائماً في مجلس الأمن، بوصفنا دولة عظمى».
[ [ [
ليست مبالغة أن يعبّر الرئيس السوري عن تخوّف من مخاطر مصيرية تتهدد المشرق العربي جميعاً، فمن أين يمكن أن تعبر الطمأنينة إلى أقطاره التي تسبّب الاحتلال، أميركياً بالأساس (وإسرائيلياً، في حمايته)، والعجز عن مقاومته، بتصليب الوحدة الوطنية، سواء في العراق الذبيح أو في فلسطين المشلعة بأيدي تنظيماتها المسلحة (برغم اختلاف وظيفة السلاح) أو في لبنان المنقسم على ذاته والذي تعجز قياداته عن التوافق على ما يضمن سلامة «الكيان» وأهله؟
وجيد أن يكون الرئيس الأسد قد اختصر الخصوم، ومَن يتهدد سلامة هذه المنطقة، بإدارة جورج بوش التي تتعرض لحملة شرسة داخل بلادها نتيجة لمغامراتها العسكرية المعبّرة عن فشلها السياسي. إن اختصار الكل في واحد، الأقوى وصاحب القرار، يخفف أو يلغي المعارك الجانبية المكلفة، والتي تشغل عن مصدر الخطر، وتشتت القوى والجهود بما يمكِّن «المجتمع الدولي» من فرض إرادته أكثر فأكثر وأن يشمل بقراراته كل من هو فوق الأرض العربية وما تحتها، بحيث يصير الاحتلال تحريراً والحرب الأهلية إنجازاً ممتازاً يقرّب موعد قيام الشرق الأوسط الجديد حيث لا عرب عاربة ولا مستعربة.
وعلينا أن نتعامل بجدية مع شهور الخطر الستة المقبلة، فعندما تتخوّف سوريا من الأيام الصعبة المقبلة يتوجب على اللبنانيين أن يبادروا إلى توفير بديهيات شروط الحماية لكيانهم ولحياتهم... وليس لها من طريق إلا وحدتهم.
وعسى يكون «الصمت السوري» مقدمة لفتح باب الكلام «لبنانياً» حول ضمانات حماية المستقبل... الذي لا يمكن أن يكون بالتضاد أو بالنكاية!