"لابد من مراجعة قانون العودة"، "يجب ألا تكون إسرائيل دولة يهودية"، "الإسرائيليون أصبحوا أمواتاً، ولكن لم يبلغهم أحد بذلك، لكنهم في واقع الأمر أموات"، "ثمة أوجه شبه بين الدولة الصهيونية والنازية".
لو صدرت هذه العبارات عن أي شخص غير يهودي، في الغرب أو في الشرق، لكان ذلك كافياً لأن تُكال ضده الاتهامات بمعاداة السامية (أومعاداة اليهود واليهودية). إلا أن قائلها هو "أبراهام بورج"، الذي تولى من قبلُ رئاسة الكنيست والوكالة اليهودية، في كتابه الجديد الانتصار على هتلر، ولهذا أُخذت كلماته على محمل الجد، وأثارت وما زالت تثير جدلاً واسعاً في الكيان الصهيوني.
ونظراً لأهمية آراء "أبراهام بورج" هذه، وخاصة في سياق النقاش في الدوائر السياسية العربية حول إمكانية التعايش مع هذه الدولة والتوصل إلى "سلام" معها، يجدر إلقاء الضوء على أهم ما جاء في كتاب "بورج"، الذي يعكس إلى حد كبير المزاج العام لدى كثير من الإسرائيليين بعد أكثر من 50 عاماً على تأسيس الدولة الصهيونية، وبعد نحو قرن من الصراع العربي الصهيوني. ويستند هذا العرض إلى المصادر التالية: (المشهد الإسرائيلي، إصدار مؤسسة مدار، رام الله، فلسطين المحتلة، 5 يوليو 2007؛ حلمي موسى، "الانتصار على هتلر أم انتصار هتلر"، المشهد الإسرائيلي، 11 يونيو 2007؛ "صهيونية أبراهام بورج الجديدة"، مجلة فوروارد الأميركية، 13 يوليو 2007، صحيفة هآرتس، 8 يونيو 2007).
يرى بورج أن المجتمع الإسرائيلي يتألف من أناس معاقين نفسياً وينتابهم الرعب والخوف ويستخدمون القوة لأن هتلر تسبب لهم في ضرر نفسي عميق •
يتعرض "بورج" في كتابه الساخن الكاشف هذا لكثير من القضايا من أهمها قضية "الدولة اليهودية" وطبيعتها وقدرتها على البقاء، فيقول:
"إن تعريف دولة إسرائيل على أنها دولة يهودية هو مفتاح نهايتها، فدولة يهودية هي مادة متفجرة، لأنها لا يمكن أن تكون "دولة يهودية وديمقراطية" في الوقت نفسه... الدولة في تصوري هي مجرد أداة، وليست قيمة روحية أودينية. وعندما تُوصف إسرائيل بأنها دولة يهودية، ثم تُضاف عبارة "فجر خلاصنا"، (وهي عبارة ترد في دعاء الحاخام الأكبر لدولة إسرائيل) فلابد أن يؤدي هذا إلى الاعتقاد بضرورة أن تستولي الدولة اليهودية على الأراضي الفلسطينية الواقعة من النهر (نهر الأردن) إلى البحر (البحر الأبيض المتوسط) وأن تهيمن عليها كواجب ديني. فإذا كانت الدولة "يهودية"، فإنها تستند إلى قدر من القداسة، وقد عرَّف موسى "التوراتي" القداسة بأنها عملية مستمرة تأخذ شكل أفعال ومواقف من الآخرين ومن الإله. وأخشى ما أخشاه هو القداسة الآلية، فقد تؤدي إلى التعصب القومي وإقصاء الآخرين وإلى مظاهر سلبية كثيرة بين الأفراد والأمم".
ولا يكتفي "بورج" بتوجيه هذه الانتقادات إلى مفهوم "الدولة اليهودية"، الذي استندت إليه الحركة الصهيونية، بل يذهب إلى حد القول: إنه لم يعد يعتبر نفسه صهيونياً، وإنه "يجب إبقاء هرتزل خلفنا"، في إشارة إلى صاحب فكرة "دولة اليهود" ثيودور هرتزل. على أن يُبعث من جديد في الوقت نفسه "آحاد هعام"، وهو مفكر صهيوني صاحب مدرسة "الصهيونية الروحية" التي ترى أن الدولة الصهيونية هي مجرد مركز ثقافي ليهود العالم، وليست دولة تسعى إلى جمع كل يهود العالم.
وينتقل "بورج" إلى عنصر آخر يشكل جانباً جوهرياً في الفكر الصهيوني وفي الممارسات التي تستند إليه، ألا وهو "قانون العودة"، الذي يتيح لأي يهودي في أي مكان في العالم أن يهاجر إلى دولة إسرائيل ويحصل على حقوق المواطنة فيها. ويدعو "بورج" إلى البدء في إجراء نقاش واسع حول هذا القانون، الذي يعتبره قانوناً لحماية الذات "يفرض طلاقاً بيننا ويهود الشتات، من جهة، وبيننا والعرب، من جهة أخرى".
ويرى "بورج" أن الدولة الصهيونية هي قوة استعمارية تعتمد على القوة فحسب وتتصرف مثل أية دولة استعمارية، كما يصف عمليات الاغتيال التي تنفذها ضد الفلسطينيين بأنها في الواقع أعمال قتل، ثم يضيف قائلاً:
"هذا ما نفعله هناك، ما الذي تريدني أن أقوله؟ إن هذا عمل إنساني؟ إن هذا هو الصليب الأحمر؟... إن ما تنفذه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية هو جرائم حرب... إن عدد الأبرياء الذين تقتلهم إسرائيل كبير جداً بحيث لم يعد في الإمكان استيعاب جرائم قتل أخرى. وإذا لم تتوقف هذه الأعمال سيكون انفجارنا وانفجارهم وانفجار العالم لا نهائياً. أرى هذا يحدث أمام أعيننا. أرى أكوام الجثث الفلسطينية تتجاوز السور الذي أقمناه لكي لا نراها".
ويمضي "بورج" قائلاً: إن "الاحتلال هو جزء صغير من القضية، فإسرائيل هي مجتمع خائف والخوف الأكبر هو ذلك الخوف القديم المتمثل في ستة ملايين يهودي أُبيدوا في المحرقة النازية". ويرى "بورج" أن المجتمع الإسرائيلي يتألف من أناس "معاقين نفسياً وينتابهم الرعب والخوف ويستخدمون القوة لأن هتلر تسبب لنا بضرر نفسي عميق"، ثم يضيف قائلاً:
"انظر إلى الجدار. جدار الفصل جدار مضاد للخوف. يُقال: إنه إذا أُقيم سور كبير فسوف تُحل المشكلة لأنني لن أراهم.... وهذه فكرة تنطوي على الجنون، خاصة في الوقت الذي تقدمت فيه أوروبا نفسها والعالم معها تقدماً مذهلاً في استيعاب دروس الكارثة، وأحدثت تقدماً كبيراً في أخلاقية الشعوب. أما نحن فلا نزال قابعين في مخاوفنا. هذه كارثة".
ولا يخلو كتاب "بورج" من هواجس النهاية، أي نهاية المشروع الصهيوني ونهاية دولته، فهو يرى أن "الواقع الإسرائيلي لا يثير حماساً والناس ليسوا مستعدين للاعتراف بذلك لكن اسأل أصدقاءك من منهم يثق بأن أولاده سيعيشون هنا، لن تجد سوى 50 بالمائة في أحسن الأحوال".
ومن أهم النقاط التي يطرحها "بورج" في كتابه تلك المقارنة بين دولة إسرائيل وألمانيا النازية، فهو يذهب إلى أن أبرز أوجه التشابه بين الاثنتين هو الإحساس "بمركزية الإيمان بالقوة في بلورة الهوية، ومكانة ضباط الاحتياط في المجتمع، وعدد المواطنين الإسرائيليين المسلحين في الشارع"، ويخلص من هذا إلى القول: "إننا مجتمع يعيش في إحساسه على سيفه. سيفي هو الشيء الوحيد الثابت، ولا غرابة في أن أُشبه هذا بألمانيا لأن إحساسنا بأن نعيش على سيوفنا ينبع من ألمانيا".
ويرى "بورج" أن الفاشية تنتشر بسرعة في إسرائيل حالياً، وأن المستقبل لا يحمل إلا مزيداً من الأخطار. ففي مقابلته مع صحيفة هآرتس (8 يونيو 2007) يقول: "أسمع أصواتاً تصدر عن سديروت (وهي المستعمرة التي تمطرها المقاومة الفلسطينية بالصواريخ). سنهدم لهم حياً ونهدم لهم مدينة. سنُبيد ونقتل ونطرد. وهناك نقاش في أروقة الحكومة والأحزاب عن طرد الفلسطينيين. لقد تجاوزنا الكثير من الخطوط الحُمْر خلال السنوات الأخيرة. ولابد أن يسأل المرء نفسه ما الخطوط الحمر التالية التي سنتجاوزها أيضاً".
وفي معرض التأكيد على تنامي الفاشية في المجتمع الصهيوني، وما يمثله ذلك من خطر على الدولة مستقبلاً، يقول "بورج": "أنا أؤمن بأن هناك احتمالاً لا يُستهان به بأن يحظر الكنيست في المستقبل العلاقات الجنسية بين اليهود والعرب، وأن يتخذ إجراءات إدارية تحظر على العرب تشغيل يهود كعمال في المنازل أو غيرها من الأشغال. سيحدث كل هذا، بل إنه أصبح يحدث فعلاً".
ويعتبر بورج أن يوم تجريد إسرائيل من السلاح النووي سيكون "أهم يوم في حياة دولة إسرائيل. سيكون هذا هو اليوم الذي نعقد فيه صفقة جيدة مع الطرف الآخر، بحيث لا نحتاج إلى قنبلة. يجب أن يكون هذا هو طموحنا".
وفي مواجهة هذه الأفكار التي تتسم بالجرأة والحدة في انتقادها للمشروع الصهيوني، لم يكن غريباً أن تثور ثائرة المؤسسة الصهيونية على "بورج"، وأن تنهال عليه الاتهامات من مختلف التيارات الصهيونية. فعلى سبيل المثال، يرى زعيم المفدال السابق، آفي إيتام، أن بورج "ذهب بعيداً وأخرج نفسه عن الإجماع الصهيوني الذي يوحدنا جميعاً".