إشكالية الهوية لا تفارق التجمع الصهيوني أو المجتمع الإسرائيلي، والتي تتبدى بشكل مثير في قضية من هو اليهودي؟ فالدولة التي تسمي نفسها "يهودية" أو دولة يهود العالم لم تنجح حتى الآن في تعريف من هو اليهودي؟ وقد بدأ هذا الوضع يهدد التجمع الصهيوني. فقد ظهرت قبائل في آسيا وأفريقيا تدّعي أنها يهودية وتريد أن تستفيد من قانون العودة الإسرائيلي الذي يعطيهم الحق أن يصبحوا مواطنين إسرائيليين عندما تطأ أقدامهم أرض فلسطين المحتلة، خاصة وقد سمعوا عن الرشا المالية التي تعطى للمهاجرين الجدد.
وتتبدى إشكالية الهوية في الأدب، هل هو أدب إسرائيلي أم عبري، أم صهيوني؟! وماذا عن الأدب "اليديشي"؟ أي المكتوب بالرطانة الألمانية التي كان يتحدث بها شرق أوروبا. وقد عُقد مؤتمر في القدس كان عنوانه "من هو الكاتب اليهودي"؟ فقال البعض: إنه هو من يكتب بالعبرية. فتصدى الناقد الأدبي والروائي الأميركي، "ملفين جول باكيت" لهذه الدعوة، وقال: إن منح المركزية للعبرية يهمش اللغات الأخرى التي يكتب بها المؤلفون اليهود. وقالت "مايا كاجانسكايا"، وهى كاتبة روسية هاجرت إلى إسرائيل: إنها لا تزال تكتب بالروسية، وتقول: إنها تشعر بعمق الصلة بينها وبين كبار الكتّاب الروس، أي أنها تقول: إنها لا تزال داخل إطار التقاليد الأدبية الروسية. كيف إذاً يمكن أن نصنفها "كاتبة يهودية"؟
فلنحاول نحن أن نصنف هذه الآداب التي يكتبها كتّاب يهود. ويمكن أن نستخدم عبارة "الأدب اليهودي" لتصنيف بعض الأعمال الأدبية، إما من منظور مضمونها أو من منظور الانتماء الإثني أوالديني (الحقيقي أو الوهمي) لكاتبها إذ تُصنَّف الأعمال الأدبية التي تتناول موضوعاً يهودياً أو مُستمدَاً من حياة أعضاء الجماعات اليهودية (بغض النظر عن لغة العمل أوالتقاليد الفكرية أو الحضارية التي يدور في إطارها) باعتبارها «أدباً يهودياً».
تتبدى إشكالية الهوية في الأدب، هل هو أدب إسرائيلي أم عبري، أم صهيوني؟! وماذا عن الأدب اليديشي أي المكتوب بالرطانة الألمانية التي كان يتحدث بها شرق أوروبا؟
ولكن إن أخذنا بالتصنيف الذي يستند إلى مضمون العمل الأدبي، فنحن بذلك نكون قد تجاهلنا لغة الأدب والتقاليد الحضارية والأدبية والشكلية التي يَصدُر عنها، وصرنا نختزله تماماً في بُعْد واحد. كما أن مصطلح «الأدب اليهودي» يربط بين أعمال أدبية كُتبت داخل تقاليد أدبية مختلفة باعتبار أنها جميعاً «أدب يهودي»، وكأن ثمة موضوعات متواترة وأنماطاً متكررة تبرر تصنيف هذه الأعمال الأدبية داخل إطار واحد. فقصيدة كتبها شاعر روسي يهودي عن اليهود باللغة الروسية، ورواية كتبها مؤلف فرنسي يهودي عن اليهود باللغة الفرنسية، وقصة قصيرة كتبها كاتب أميركي يهودي عن اليهود باللغة الإنجليزية، ومقال أدبي كتبه أديب من ليتوانيا باليديشية، ودراسة نقدية كتبها أديب إسرائيلي بالعبرية، تُصنَّف كلها باعتبارها «أدباً يهودياً»، أي أنه مصطلح يفترض وجود أطر ثقافية وفكرية يهودية عالمية. ومثل هذا الافتراض لا يسانده الكثير في واقع أعضاء الجماعات اليهودية، وهو يؤكد الوحدة والتجانس والعمومية على حساب التنوع وعدم التجانس والخصوصية، وفيه تأكيد للمضمون اليهودي للعمل الأدبي على حساب أبعاده الفكرية والشكلية الأخرى، أي أنه مصطلح يُفقد الأدب ما يُميِّزه كأدب.
إن أخذنا بالتصنيف الذي يستند إلى انتماء الكاتب إلى اليهودية، نكون قد أخذنا بأساس تصنيفي ليس له مقدرة تفسيرية عالية. فكثير من الأعمال الأدبية التي يكتبها مؤلفون يهود (مثل الناقد الأميركي ليونيل تريلنج) ليس لها مضمون يهودي. ونحن نرى ضرورة عدم استخدام هذا المصطلح بسبب قصوره عن الإحاطة بشكل ومضمون الأعمال الأدبية التي كتبها مؤلفون يهود عن موضوعات يهودية، فالبُعْد اليهودي ليس هو المحدِّد الأساسي للعمل الأدبي، كما أنه لا يوجد بُعْد يهودي عالمي واحد.
ويمكن استخدام عبارة «الأدب الصهيوني» للإشارة لبعض الأعمال الأدبية ذات المضمون الأيديولوجي الصهيوني الواضح، بغض النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الحضاري أو اللغوي للمؤلف. فرواية "دانيال دروندا"، التي ألَّفتها الكاتبة المسيحية "جورج إليوت" بالإنجليزية، تنتمي إلى هذا الأدب الصهيوني، بينما نجد أن بعض الروايات التي كتبها يهود عن الحياة اليهودية لا تنتمي إلى الصهيونية من قريب أو بعيد، بل إن بعضها يتبنى رؤية معادية للصهيونية بل ولليهودية. وما يُسمَّى «الأدب الصهيوني» هو عادةً أدب من الدرجة الثالثة (أو كما نقول: «أدب صحفي»، أي أنه كُتب ليُنشَر في الصحافة كما أنه ذو توجُّه دعائي واضح. ومن أهم أعمال الأدب الصهيوني رواية الخروج للكاتب الأميركي اليهودي "ليون أوريس "وأعمال الكاتب الأميركي اليهودي مائير لفين). والأعمال الأدبية المكتوبة بالعبرية أو "اليديشية"، أو التي كتبها أدباء يهود في مختلف أرجاء العالم، نجد أن منها ما هو صهيوني- وهو القليل- ومنها ما هو معاد للصهيونية، وغالبيتها غير مكترثة بها.
ولا يصف مصطلح «الأدب الصهيوني» شكل الأدب ولا محتواه ولا حتى لغته، وإنما يصف اتجاهه العقائدي العام، تماماً مثل عبارة «الأدب الرأسمالي» أو «الأدب الاشتراكي». ولذلك، فهو مصطلح عام ومجرد، مقدرته التفسيرية والتصنيفية ضعيفة للغاية ولا يُعَدُّ تصنيفاً أدبياً، شأنه في هذا شأن مصطلح «الأدب اليهودي».
أما عبارة «الأدب العبري»، فيمكن استخدامها للإشارة إلى الأعمال الأدبية المكتوبة بالعبرية. وهو اصطلاح عام مقدرته التفسيرية والتصنيفية ضعيفة للغاية، فهو يشير إلى الانتماء اللغوي للعمل الأدبي وحسب ولا يغطي الانتماء الحضاري أو القومي. "فتشرنحوفسكي" و"يهودا اللاوي" كلاهما كتب بالعبرية، غير أن الأول ينتمي إلى التقاليد الأدبية الروسية الرومانتيكية، بينما ينتمي الثاني إلى التراث الأدبي العربي في الأندلس، أي أن القاسم المشترك بينهما ليس سوى اللغة وحسب. بل إن العبرية التي استخدمها كلٌّ منهما متأثرة بالمحيط الحضاري، ومن ثم فإن أياً منهما لم يكتب «أدباً عبرياً» وإنما عبَّر عن نفسه ورؤيته من خلال «أدب مكتوب بالعبرية». وحيث إن هذه الآداب تتنوع بتنوع التقاليد الحضارية والأدبية واللغوية، فنحن نتحدث عن «الآداب المكتوبة بالعبرية». أما «الأدب الإسرائيلي» فهو الأدب المكتوب بالعبرية في إسرائيل بعد عام 1960، ونشير له أحياناً بأنه «الأدب العبري الحديث».
أما عبارة «الأدب الإسرائيلي» فهي تُستخدَم للإشارة إلى «الأدب المكتوب بالعبرية في فلسطين المحتلة منذ عام 1960»، وهي عبارة مرادفة تقريباً لعبارة «الأدب العبري الحديث».
وإذا كان يَصُعب الحديث عن «أدب عبري» حتى عام 1948، باعتبار أنه أدب يتبع عدة تشكيلات حضارية مختلفة، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الأدب "اليديشي" المرتبط بتشكيل حضاري واحد في شرق أوروبا، روسيا وبولندا على وجه الخصوص. ولذا، فإن مصطلح «الأدب اليديشي» له مقدرة تفسيرية وتصنيفية عالية، خصوصاً إن ذُكر الانتماء القومي للكاتب باليديشية (بولندي، روسي،... إلخ). وظهرت أول أعمال أدبية "يديشية" في القرن السادس عشر، وكانت ترجمات للآداب الغربية وكُتُب الصلوات. وقد استخدم بعض دعاة حركة التنوير اللغة "اليديشية"، بدلاً من العبرية، كلغة للتعبير الأدبي باعتبار أنها لغة حية وتتحدث بها الجماهير اليهودية من يهود "اليديشية". ثم ظهر أساطين الأدب "اليديشي". وكانت هناك مراكز للأدب "اليديشي" أينما هاجر يهود "اليديشية"، لكن المركز الأساسي كان في بولندا وروسيا ثم الولايات المتحدة. وربما كان الاستثناء الوحيد من القاعدة هو فلسطين حيث كانت المؤسسة الصهيونية تعارض اللغة "اليديشية".
وما يثير قضية الهوية الشاعرة "إليشيفا" (1888-1949)، وهى أديبة روسية غير يهودية تكتب بالعبرية. كانت "إليشيفا" تُبدي إعجاباً شديداً بقيم اليهودية، كما أبدت تعاطفاً مع دعاوى «القومية اليهودية» (أي الصهيونية)، إلا أنها ظلت متمسكة بعقيدتها المسيحية ولم تتحول إلى اليهودية. ورغم أن "إليشيفا" ليس لها أية أهمية أدبية، فإنها تثير قضايا منهجية عديدة. فالتصور العام أن الآداب المكتوبة بالعبرية هي جزء مما يُسمَّى بالأدب اليهودي، وأنه تعبير عن الهوية اليهودية، ولكن ماذا لو كتب أديب بالعبرية عن مواضيع غير يهودية أو كتب أدباً معادياً لليهود واليهودية؟ هل يظل هذا أدباً يهودياً؟ وهناك القضية الأخرى وهي: هل الأعمال الأدبية المكتوبة بالعبرية تشكل أدباً عبرياً أم آداباً مكتوبة بالعبرية؟ وتثير "إليشيفا" كل هذه القضايا بحدة، فهي روسية مسيحية أرثوذكسية ظلت متمسكة بعقيدتها المسيحية رغم أنها كانت تكتب بالعبرية، ورغم أنها هاجرت إلى فلسطين واستوطنت فيها، ولابد أنها كانت تدور داخل إطار التقاليد الأدبية الروسية، أي أنها ظلت مسيحية من ناحية العقيدة، روسية من ناحية الانتماء الأدبي، وهو ما يجعل العبرية مجرد أداة لغوية. وهي، في هذا، تشبه "أنطون شماس" الفلسطيني العربي الذي كتب رواية بالعبرية وأصبح من رواد الأدب العبري في إسرائيل! كما الشاعر الفلسطيني العربي نعيم عرايدي الذي يعكف على كتابة رواية بالعبرية، وهذا أدب ليس إسرائيلياً، وإنما أدب عربي مكتوب بالعبرية.