مازالت أدبيات من القرون الماضية تتحكّم في بعض تسميات الحاضر رغم اختلاف الظروف والمعلومات ووقائع العصر الراهن. فتوزيع العالم بين «شرق» و«غرب»، و«شرق أدنى» و«شرق أوسط» و«الشرق الأقصى»، هي تسميات لحقب تاريخية كان بعضها سابقاً لاكتشاف كروية الأرض، وبالتالي تنعدم الآن صحّة رؤية العالم بين «شرق» و«غرب» بحكم نسبية المكان على أرض كروية تسبح في فلك عظيم، كل مكان فيها هو «شرق» لجهة ما و«غرب» لجهة أخرى.
إن الأوروبيين هم الذين ابتدعوا الكثير من التسميات المتداولة الآن في مصطلحات دولية، فكانت أجزاء من المنطقة العربية هي بالنسبة إلى الأوروبيين «شرق أدنى» وأجزاء أخرى هي في «الشرق الأوسط» بما فيه إيران وأفغانستان، ثم «الشرق الأقصى» وهو مجموعة الدول الممتدّة من الصين إلى اليابان.
إذاً هذه التسميات الأوروبية سبقت نشوء الدول والأمم كما نعرفها اليوم، ولم تكن قائمة على أساس حدود جغرافية دولية، ولا يشترك من فيها من شعوب بلغة واحدة أو ثقافة واحدة. كانت تسميات ترتبط بالهيمنة والسيطرة العسكرية والاقتصادية، وهي أشبه بالدوائر المحيطة بنقطة المركز التي كانت لقرون طوال في أوروبا.
عالم اليوم تغيّر كثيراً، ونقطة المركز أصبحت أميركية، ورغم ذلك هناك محافظة أميركية على التسميات الأوروبية القديمة، لكن لأهداف مختلفة وعلى أساس مضامين جديدة تريدها واشنطن أن تسود العالم في مطلع هذا القرن الجديد.
فدعاة مفهوم «الإمبراطورية الأميركية» يجدون مصلحة في إبقاء «الغرب» كتلةً واحدة تحت قيادة أميركية، بل ويجدون مصلحة أيضاً في إضافة دول أخرى إلى «المعسكر الغربي»، كما حصل ويحصل مع مجموعة دول أوروبا «الوسطى» و«الشرقية»، وهي الدول التي كانت منذ أقل من عقدين من الزمن محسوبة على «الشرق السوفياتي» فإذا بها الآن تأخذ «الهوية الغربية» وتصبح جزءاً من «حلف الأطلسي».
ساهم دعاة «الإمبراطورية الأميركية» أيضاً في نشر وتعميم نظرية توزيع العالم على أساس حضارات متصارعة ليتمّ تبرير حروب جديدة في «الشرق الأوسط» تمهّد في المستقبل أيضاً لهيمنة على «الشرق الأقصى».
ولعل أبرز المضامين المعطاة الآن لمفهومي «الشرق» و«الغرب» هي قضايا تميّز بين كتل الشعوب (وليس الدول) على أسس سياسية وعقائدية وثقافية. فالغرب هو مصطلح يعني الآن الشعوب التي تعتمد الأنظمة السياسية الديموقراطية ونظام الاقتصاد الحر وتأخذ بالمنهج العلماني في الحكم رغم الطابع الديني المسيحي لهذه الشعوب.
وبالتالي، فإن دولة مثل أستراليا الموجودة في أسفل الكرة الأرضية، والتي هي غير معنية جغرافياً بتوزيع العالم بين «الشرق» و«الغرب»، أصبحت الآن دولة فاعلة في معسكر «الحضارة الغربية»!
وقد وجدت إسرائيل ومن يدعمها من دول «الغرب» الأوروبي والأميركي مصلحة كبيرة في هذه التسميات التي تجعل منها «دولة غربية» و«شرق أوسطية» معاً، إذ إن تسمية «الشرق الأوسط» تنزع الهويّة العربية عن المنطقة فتقضم منها دولاً عربية وتضيف إليها إسرائيل بكل ما تمثّله الأخيرة من ثقل عسكري وسياسي واقتصادي «غربي».
إذاً، مبدأ توزيع العالم إلى «شرق» «غرب» هو حالة نسبية ولا مضمون علمي لها، والاختلال في ميزان التسميات حاصل كيفما نظرنا إلى دول «الشرق» و«الغرب». أما على الجهات الأخرى، أي الشمال والجنوب، فنجد تصنيفاً مختلفاً يعتمد على التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين دول شمال الكرة الأرضية ودول جنوبها. هو تمايز يقوم على مستويات الفقر والثراء، وعلى مدى التخلّف والتقدّم في الحياة الاقتصادية ومثيلتها الاجتماعية.
وفي الحالتين: تقسيم العالم إلى «شرق» و«غرب» أو إلى «شمال» و«جنوب»، هناك مسؤولية أولى عن الاختلاف الحاصل بين المجتمعات، وهي مسؤولية الإمبراطوريات التي صنعت تقدّمها السياسي والاجتماعي عن طريق قهر شعوب أخرى واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها الوطنية وإضعاف عناصر وحدتها الاجتماعية، فأفرز ذلك كله على مدار عقود من الزمن تنميةً في بلدان أوروبا وشمال أميركا مقابل تخلف في معظم المجتمعات الأخرى.
وهناك، من دون شك، محاولات كثيرة بذلتها ولا تزال تبذلها دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لتصحيح هذا الخلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكن هذه المحاولات تصطدم دائماً بما هو عليه العالم من هيمنة للقرار الأميركي ـ الأوروبي على مجريات الأحداث وعلى مؤسسات دولية معنيّة بتصحيح الخلل كالأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك البناء الدستوري الداخلي السليم، هي مسائل مرتبطة حتماً بما تواجهه المجتمعات من تحدّيات خارجية ومن أحداث أمنية تجري في محيطها الجغرافي أو داخل أوطانها. ولذلك فإنها لمقولة سليمة جداً تلك التي تؤكد أن الأمن الوطني لأي بلد عربي لا ينفصل أبداً عن الأمن القومي العربي العام، وعن الصراعات التي تحدث في المنطقة.
وفي تجربة لبنان مثال جيّد على ذلك، إذ انّ الدولة اللبنانية رفضت قبل حرب العام 1967 إدخال لبنان في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ورفع بعض الزعماء اللبنانيين شعار: «قوّة لبنان في ضعفه»، وكان ذلك بحجّة الحفاظ على التجربة اللبنانية، وما فيها من تطور سياسي واجتماعي واقتصادي مميّز في المنطقة. لكن إسرائيل لم تجد مصلحةً في إبقاء لبنان خارج دائرة الصراع رغم أنّه لم يشترك إطلاقاً في حرب العام 1967، فقامت إسرائيل بقصف مطار بيروت وحرق الطائرات اللبنانية على أرضه في العام 1968 من دون أي مبرر، وكان ذلك بداية لمرحلة جديدة دخل لبنان بعدها في أتون الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومازال مصيره الوطني والسياسي والاقتصادي مرتبطا بتطورات هذا الصراع وبكيفية إنهائه.
هذا مثال ينطبق على الكثير من الأوطان العربية التي تبحث عن التقدّم عن طريق العزلة في محيطها العربي. ولعلّ المنطقة العربية هي حالة فريدة جداً بين مناطق العالم، فهي صلة وصل بين «الشمال» و«الجنوب»، وبين «الشرق» و«الغرب»، وبين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة، ومن تلك الأرض: أرض العرب خرجت حضارة إسلامية وعربية امتدت لكل الجهات الأربع وساهمت في إطلاق شعلة النهضة الأوروبية. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة والأطماع الأجنبية.
وستبقى هذه المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ الإمبراطوري، وسترتج أرضها لدى أي اختلال يحدث في الميزان الدولي القائم على صراعات «الشرق» و«الغرب» أو على تباينات «الشمال» و«الجنوب».
ولا يمكن لهذه المنطقة ككل أو لأجزاء منها أن تختار السلامة والأمن عن طريق العزلة، فهناك حتمية الصراع الدولي على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها. لكن ليس هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقف أصلاً على مدى الاختلال الحاصل في الميزان العربي، وهو الآن يشهد اختلالاً في اتجاهاته الأربعة!