أطلق الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان على الاتحاد السوفييتي السابق صفة (امبراطورية الشر) مبرراً ذلك بهيمنته على مناطق نفوذ واسعة في أوروبا وتزايد وجوده ونفوذه في بلدان العالم الثالث وتسليح هذه البلدان ودفع عملية التنمية فيها والتضييق على الاحتكارات الرأسمالية الأميركية والأوروبية التي كانت تتحفز للحفاظ على امتيازاتها وكسب امتيازات جديدة من خلال الهيمنة.
في الوقت الذي كان الاتحاد السوفييتي يملك أسلحة وجيوشاً تقليدية تقف بوجه أي عدوان أميركي محتمل على أي بلد في العالم فضلاً عن امتلاكه أسلحة نووية قادرة على تدمير العالم أكثر من مرة، وكان الرئيس ريغان يضيف إلى هذه الأسباب هيمنة (الأيديولوجيا) على السياسة السوفييتية وعدم اهتمام الاتحاد السوفييتي بإقامة (الديمقراطية) حسب المفهوم الأميركي لها.
لا داخل الدولة السوفييتية ولا داخل دول حلف وارسو الحليفة ولا في مجتمعات العالم الثالث الصديقة للاتحاد السوفييتي والتي كانت تعتمد على دعمه السياسي والاقتصادي والعسكري، وبرر الرئيس الأميركي إطلاقه هذه الصفة أيام الحرب الباردة بهذه الدلالات مجتمعة وبغيرها من الدلالات التي اخترعتها الشركات الاحتكارية الأميركية واستطراداً سياسة الإدارة الأميركية والآلة الإعلامية الأميركية والرأسمالية فائقة القدرة.
انتهت الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي وأنظمة الدول الحليفة له وبخيبة كبيرة لأنظمة الحكم في دول العالم الثالث، وفتح الباب على مصراعيه للهيمنة الأميركية والنفوذ الأميركي، وأعقب انتهاء الحرب الباردة انتشار شعارات (سقوط الأيديولوجيا) والدعوة لأنظمة ديموقراطية في العالم، ولعلاقات ليبرالية بين الدول وداخل هذه الدول.
وطرح مشروع العولمة الاقتصادية والتجارية أولاً ثم سيادة العولمة بالمطلق بما هي اقتصاد وثقافة وقيم وتقاليد وأنماط حياة وطريقة عيش، وتبنت معظم دول العالم إن لم يكن كلها اقتصاد السوق وتطبيق سياسة العرض والطلب، والمناداة بالتخلي عن الهوية الوطنية لصالح الجنسية وعن اللغة الوطنية لصالح الإنجليزية (الأكثر انتشاراً وسهلة الاستعمال) كما يقول المؤيدون،
وانتشرت التقاليد الاستهلاكية وعلى الأصح التقاليد الاستهلاكية الأميركية، وساعدت ثورة الاتصال و(التكنولوجيا) على وصول المفاهيم الأميركية الجديدة إلى كل مواطن في العالم، وهيمنت الثقافة الأميركية والإعلام الأميركي على عالمنا بما في ذلك دول أوروبا، وبدأت شعوب الأرض تتأمرك ضاربة عرض الحائط بمصالحها الوطنية وهوياتها وثقافاتها وقيمها،
وتحولت هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها ومجلس الأمن إلى دوائر تكاد تكون تابعة لوزارة الخارجية الأميركية ومع ذلك قبلت نخب وأحياناً شعوب أو على الأقل تيارات سياسية في مختلف بلدان العالم ما جرى بعد سقوط سور برلين على أمل أن يعيد اقتصاد السوق وسياسة العرض والطلب التوازن إلى الاقتصاد المحلي والعالمي كما تزعم السياسة الأميركية وبالتالي يرتفع مستوى الحياة ويتسارع التطور العلمي والتقني وتحترم الحريات في بلدان العالم وتقام الأنظمة الديمقراطية ويسود السلام والوئام مختلف أصقاع الأرض.
وكادت بلدان الدنيا كلها تسلم قيادتها للامبراطورية الأميركية المنتصرة علّها تطبق ما نادت به وماكانت تنتقد الاتحاد السوفييتي ونظامه لأنه لم يطبقه، وها هو عالمنا ينتظر الأمن ورغد العيش بإشراف الامبراطورية الأميركية التي استسلم لها ولم تعد توجد دولة أو حتى تكتل دول (إقليمي أو غير إقليمي) يمكنها أن تقف بوجه هذه الامبراطورية.
إن الامبراطورية الأميركية التي دخل عالمنا القرن الواحد والعشرين تحت ظلالها ليست أول امبراطورية تقوم في التاريخ بل هي آخرها، فقد تعود عالمنا وخاصة (العالم القديم) على قيام الامبراطوريات وسقوطها منذ آلاف السنين، وكلها توسعت عسكرياً وهيمنت سياسياً واقتصادياً وفرضت على العالم مفاهيمها والنظم التي تريدها والتي تحقق مصالحها، فقبل الميلاد شهد عالمنا المتوسطي قيام الامبراطورية الهيلينية
حيث وسعت فتوحات الاسكندر المقدوني النفوذ الهيليني ليشمل شمال المتوسط وشرقه حتى الهند وجنوبه وخاصة في مصر مما أدى بالضرورة إلى انتشار الحضارة الهيلينية وثقافتها ونفوذها ثم سقطت هذه الامبراطورية أمام الامبراطورية الرومانية الصاعدة التي سلبت من الامبراطورية الهيلينية ممتلكاتها ومناطق نفوذها ونشرت ثقافتها وحضارتها،
وقامت الامبراطورية العربية الإسلامية على أنقاضها وأنقاض مثيلتها الفارسية وانتشرت الثقافة والحضارة العربية الإسلامية من وسط آسيا وجنوبها إلى شمال افريقيا وجنوب غرب أوروبا. وشهد العالم بعد عصر الاكتشافات والثورة الصناعية قيام الامبراطورية البريطانية التي أسست مناطق نفوذ ونشرت ثقافتها وحضارتها ثم انهارت أمام زحف الامبراطورية الأميركية في النصف الثاني من القرن العشرين.
إن قيام الامبراطوريات وأفولها إذن ليس أمراً جديداً على التاريخ الإنساني منذ الألف الأول قبل الميلاد حتى أيامنا، وقيام الامبراطوريات التي ذكرت ما هو إلا أمثلة مختارة، وقد حاولت هذه الامبراطوريات جميعها السيطرة على الشعوب داخل مناطق نفوذها وحكم هذه الشعوب ونهب خيراتها وتسخيرها لتأمين مصالح الامبراطورية.
ولكنها في الوقت نفسه كانت تحترم خصوصية الشعوب المغلوبة وتحاول دفعها إلى الأمام للنهوض الحضاري، فقد نشرت الامبراطورية اليونانية الفلسفة اليونانية وأدخلتها في ثقافات الشعوب التابعة، وبنت المكتبات والمراكز الثقافية وتقربت من السكان وحاولت تعويضهم عن نهبهم بأشياء أخرى، ومثلها تقريباً فعلت الامبراطورية الرومانية رغم قسوتها و(تعسكرها) فبنت المسارح والطرقات وشبكات الري (وبعض هذه كلها مازال قائماً).
وأما العرب (فما عرف العالم فاتحاً أرحم منهم) وحتى البريطانيين فرغم أنهم نهبوا مستعمراتهم إلا أنهم خلفوا وراءهم تقاليد حديثة وأنظمة حكم حديثة (رغم تبعيتها وتهافتها) وتركوا قوانين ودساتير وإدارات دولة وبنوا مؤسسات دولة كان لها دور بعد الاستقلال، وخلاصة القول انه من الصحيح أن هذه الامبراطوريات نهبت البلدان الخاضعة والتابعة واستعمرتها، لكنها نادراً ما كانت تدمر ثقافة السكان وتقاليدهم وترتكب المجازر بحقهم كما تفعل الامبراطورية الأميركية بل ربما كانت تميل لاسترضائهم والعيش بسلام معهم، وإظهار استعمارها وكأنه لصالح السكان وخدمة لوجه الله تعالى.
أما الامبراطورية الأميركية فهي امبراطورية عنصرية لا تحلل ولا تحرم، لاترى إلا مصالحها التي تريد أن تحققها بسرعة تتواءم مع سرعة الاتصال في عصرنا، لا تتوقف عند الوسيلة حتى لو ارتكبت أبشع المجازر، ولا تشبع من النهب والابتزاز ولا يهمها لا سمعتها ولا العدل والإنصاف، لاتهتم بالشعوب المغلوبة ومصالحها،
تسخر الآلة الإعلامية لتزوير وعي الشعوب دون رحمة والآلة العسكرية لإخضاع هذه الشعوب، لا تترك وراءها إلا الدمار والخراب، ومثلنا فيتنام والعراق ودول أميركا اللاتينية التي دفعت الثمن مبكراً منذ مبادئ الرئيس ويلسون في مطلع القرن الماضي، وذلك كله دون أن تهتم لا بالرأي العام ولا بالقيم الإنسانية الأساسية.
لقد تحولت العولمة واقتصاد السوق وثورة الاتصال والتقانية وشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها إلى سهام تغرسها الامبراطورية الأميركية في جسم الشعوب في محاولة فجة لأمركة العالم وتفتيته. ويبدو أنه لا يمكن أن تكون الامبراطورية الأميركية إلا كذلك لأنها نتاج الشركات الاحتكارية وممثلتها، وهذه لا تؤمن إلا بالنهب والسلب والأخذ دون العطاء إنها امبراطورية الشر فعلاً.