رحيل حيدر عبد الشافي مناسبة لاستحضار التزامه المضيء ومواقفه المستقيمة ومساهماته السخية على الصعيدين القومي والانساني. الا ان هكذا المزايا التي رافقت جميع مراحل حياته وجعلته رجل دولة في غياب فلسطين الدولة، معروفة ومؤكدة وستبقى عاملا رئيسياً في الذاكرة الجماعية لشعب فلسطين وكل من اعتبر فلسطين اضافة الى عروبة انشائها هوية نضالية ومسؤولية قومية.
نشير الى إرث حيدر عبد الشافي الفكري والسياسي لكونه في حال النفاذ الى عناصر مكوناته، يجعلنا نحن العرب، وعلى الاخص الفلسطينيين بمنأى عن الوقوع مرة ثانية في المصيدة الخانقة التي وقعت فيها القضية الفلسطينية، اي اتفاقات اوسلو وما آلت اليه من معاناة وآلام وعذابات.
لماذا هذا الالحاح على استحضار هذه الثروة النضالية ودقة المنهجية التي اتبعها هذا القائد الذي جعل من التواضع رديفاً للعظمة، ومن بساطته دليلا لعمق المعرفة وسعة الاطلاع؟ نستحضر ذكراه في هذه اللحظة لمناسبة التحضيرات القائمة للمؤتمر، او اللقاء او الاجتماع، الذي دعا اليه الرئيس الاميركي جورج بوش من اجل بلورة رؤيته لقيام دولتين في فلسطين التاريخية.
•••
مرة اخرى، لماذا الحاجة الى استحضار هذا الارث؟ لأنني أجد في دعوة الرئيس بوش وتحضيرات الوزيرة كوندوليزا رايس ما يشبه التحضيرات السرية التي مهدت لاتفاقات اوسلو التي اعتبرها الدكتور عبد الشافي اجهاضا للمسيرة التفاوضية التي قادها، على اساس ان اسرائيل في الاراضي المحتلة هي محتلة، واعتبر ان غير ذلك يعني ان المحادثات مع الاسرائيليين ستكون تمرينات في العبث. كانت منظمة التحرير ترى ان اقرار اسرائيل بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني يشكل نقطة انطلاق لمفاوضات تؤدي الى دولة دون انتزاع اعتراف صريح من اسرائيل بأنها سلطة محتلة، مما جعل اتفاقات اوسلو المصيدة الخانقة التي أفرزت الحالة المأسوية بشتى ابعادها والتي تجعل اسرائيل، بصفاقة استفزازية، تقول انها يمكن ان تقوم بـ"تنازلات آلية" لكونها تتصرف في الاراضي المحتلة كأن لها حق الملكية المطلقة وبالتالي كأن المقاومة لاحتلالها هي بمثابة حركة تمرد انفصالي.
عندما استدعى الرئيس السابق بيل كلينتون ما تيسر من المسؤولين العرب لحضور الاحتفال في البيت الابيض مع ياسر عرفات واسحق رابين وجهنا رسالة في جريدة "الحياة" الى "الضيوف العرب في البيت الابيض: اذا كان لا بد من صورة اجتنبوا على الاقل الابتسامة". وللتاريخ، دعي ادوار سعيد الى الاحتفال كما هشام شرابي، واعتذرا، بينما لبّى الدعوة – او الاستدعاء – عدد من "الواقعيين" الجدد، وكثر منهم يدركون اليوم خطأ الانبهار والتسرع في الانخراط.
كانت اتفاقات اوسلو تهندس "مسيرة" دون تحديد الهدف وجعل المستند القانوني بمنتهى الغموض، مما حال دون تفعيل قرارات الامم المتحدة ذات الصلة، فتضاءل بشكل متسارع دور مجلس الامن ونجاعة قرارات الجمعية العمومية ومحكمة العدل الدولية. وكان هذا بمثابة تطويق لحركية قيادة المنظمة، لكونها جعلت الادارات الاميركية المتعاقبة تتحكم في مصير القضية الفلسطينية ومستقبلها. وعندما استقال حيدر عبد الشافي ودخل المعترك السياسي امثال مصطفى البرغوتي وحنان عشراوي، جاء الاستقطاب الحاد الذي نختبر جميعنا تداعياته المفجعة.
•••
مرة اخرى، لماذا الاستحضار لارث حيدر عبد الشافي؟ السبب هو ان الدول العربية – كما اتضح اثناء انعقاد الجمعية العمومية للامم المتحدة، اعتبرت مع بعض التحفظات التي عبّر عنها الامير سعود الفيصل ان المؤتمر – اللقاء أو الاجتماع – سوف يحصل قرابة منتصف تشرين الثاني هذه السنة، كما ان "الدعوة" تنطوي على استدعاء، وكأن تلبيتها تكاد تكون مسلما بها. لذا، كي لا يتحول هذا اللقاء – سمه ما شئت باعتبار ان السيدة رايس لم تحسم بعد تركيبته – اوسلو ثانية، فاستحضار المنهج الذي اتبعه حيدر عبد الشافي يصبح اشد ضرورة في الظروف الراهنة. لماذا؟ اتفاقات اوسلو عطلت الى حد كبير مفاعيل معظم قرارات الامم المتحدة وتحولت "مسيرات سلام" بكل اشكالها مسيرات بدون سلام، مما اضطر القيمين على "المسارات" استبدالها بـ"خريطة الطريق"، دون ان تؤدي الى خريطة تحدد الخريطة. الا ان الاخطر هو تعمد غموض الهدف بغية شراء مزيد من الوقت لاسرائيل للمراوغة والتأجيل، وبالتالي التدرج بشطب حقوق الفلسطينيين واستحالة قيام دولة ذات سيادة حتى على الاراضي المحتلة منذ حزيران 1967، ناهيك بحق العودة وغيرها من الحقوق الوطنية والانسانية. وما هو اشد ايلاماً ان يكون الامين العام للأمم المتحدة عضواً في الرباعية، وبالتالي يُستدعى للمشاركة في قراراتها، ثم يجهض دور الامم المتحدة. وان عضويته في الرباعية باتت تشكل الحائل دون تنفيذ اي قرار خارج ما تتخذه الرباعية، وقد برهنت قراراتها وتوجهاتها ان العامل الطاغي عليها هو الاجندة الاميركية في المنطقة، بما فيها العلاقة الاستراتيجية المميزة مع اسرائيل.
•••
جاء خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس اثناء الجمعية العمومية واضحا في ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني، بما فيها القدس وحق العودة. وكان هذا واعداً وان يكن الموضوع مفاجأة مطلوبة. وقوبل هذا الخطاب من وزيرة خارجية اسرائيل عند اجتماع ابو مازن بها بمطلب ان يكون "واقعياً"، مما يعني ان وضوح مطالباته لا تعتبرها اسرائيل مدخلا للمحادثات، ناهيك بمفاوضات، فهذا يعني ان ثوابت المشروع الصهيوني سوف تكون الحاكمة في دعوة الرئيس بوش. لكن الصحيح ايضا ان الوزيرة رايس اوحت جدية رؤية بوش، وان الهدف يبقى قيام دولتين. هل يعني ذلك ان ما غاب منذ 40 عاما سيتم انجازه في اللقاء المنوي عقده في منتصف الشهر المقبل؟
•••
يبدو ان الرئيس عباس مقتنع بجدية ما اعتبره التزامات لقيام دولة فلسطينية، اذ المح لعدد من المسؤولين العرب انه في ايار المقبل سيحصل الانجاز الذي طال انتظاره لذا، فهو يدعو الى الاستجابة للدعوة في منتصف تشرين الثاني المقبل. في هذا الشأن ثمة عدد من المحاذير التي يجب ان تؤخذ في الاعتبار وحتى اذا دعوت الى عدم المشاركة او اشرت الى كون اللقاء قد يكون مصيدة مماثلة لأسلو، فلن يكون لهذه المطالبة اي اثر، فأنا اعرف حدود الاعتراض واللجوء الى اتهام من يعارضون بالسلبية وعدم الواقعية. ولكن حتى نكون صادقين مع انفسنا ومع قادة الانظمة العربية الذين ابدوا استعداداً للمشاركة، على هؤلاء ان يأخذوا في الاعتبار الامور الآتية:
اولاً - اللقاء يستهدف مفارقة غريبة، وهو استقواء الضعفاء بعضهم ببعض. فالرئاسة الفلسطينية ضعيفة والحكومة الاسرائيلية الضعيفة بدورها تلبي نصائح اميركية لجهة ابداء مرونة مع السلطة الفلسطينية، لكونها بالمفهوم الاميركي الراهن "تمثل الاعتدال"، وبالتالي تمحضها قوة. فاذا اراد الرئيس عباس تصحيح الواقع ومن ثم الانطباع، فلا مفر من اعادة احياء بنود اتفاق مكة المكرمة.
ثانيا - على المشاركين العرب او من يشترك منهم، ان يشددوا على خروج الامين العام للأمم المتحدة من الرباعية حتى تبقى الامم المتحدة مرجعية.
ثالثاً - على المشاركين العرب ان يصروا بشكل قاطع على ان تعترف اسرائيل بأنها في الاراضي التي احتلتها في حزيران 1967 سلطة محتلة، وبدون الاعتراف بهذا الوضع القانوني يستحيل قيام مفاوضات.
رابعاً - اذا اشترك العرب - بعضهم او معظمهم - عليهم ان يعتبروا ان قرارات قمتي بيروت والرياض غير قابلة للتعديل، فقد صيغت هذه المبادرة لكونها الحد الادنى المقبول، وهي ضامنة لما شرعته الأمم المتحدة حقوقاً غير قابلة للتصرف لكل العرب.
•••
هل على العرب ان ينقذوا ميراث الرئيس بوش، وهو الذي يبقى في حالة الانكار لما اقترفته ادارته من مجازر ودمار في العراق، وما اسهمت ادارته في تغذية الانقسامات في الدول والمجتمعات التي تدخلت فيها، أو حاولت املاء سياستها عليها، خصوصاً في المثلث المأزوم؟ وعلى رغم ذلك، اذا لبّيت المطالب العربية للمشاركة، فالمغامرة تكون محسوبة ومبرمجة، حتى اذا فشل اللقاء فلا تكون مدخلاً جديداً للاحباط.
ويبقى استحضار اسهامات حيدر عبد الشافي لاعادة تعريف الاعتدال بمرونة التعامل، وان ما وصف بالتطرف انما هو اصرار على الحقوق والمدخل الأسلم لتأمين العدالة.