عندما تفقد الأوطان مناعتها تصبح عرضة للاستباحة، وهكذا نجد ان النزف اللاحق بصدقية العرب في هذه المرحلة - حتى في دمائهم - يضعف قدراتهم وحيوية التزامهم حقوقهم الوطنية والقومية. وقد اصبح هذا النزف حالة سائدة، مما يساهم في جعل قضايانا ومشاكلنا تزداد تعقيداً، وبالتالي تظل عصية على الحل.
لعل دعوة الرئيس الاميركي جورج بوش الى مؤتمر غامض الاهداف، فاقد الاطار، دليل على أن توقيته يرجّح كفة أعداء الأمة العربية، وخصوصاً في المثلث المأزوم العراق - فلسطين - لبنان، مما يكرس التفوق الاسرائيلي ويمعن في تفريق العرب، دولاً ومجتمعات، مما يستبق أي توازن استراتيجي مقبل أو محتمل.
من هنا تتبين لنا الاهداف البعيدة المدى للمساعدات العسكرية لاسرائيل البالغة قيمتها 30 مليار دولار على مدى عشر سنين، اضافة الى مبيعات لعدد من الدول العربية بقيمة 20 مليار دولار مشروطة بتموضع لا يهدد "أمن" اسرائيل. الى ذلك، ان الدول العربية التي تتلقى هذه الاسلحة المبيعة، صنفتها الادارة الاميركية "معتدلة"، وعرّفت الاعتدال باستعداد الدول للاعتراف باسرائيل او التوجّه نحو التطبيع معها. ويأتي هذا التصنيف قبيل أي خطوة جدية نحو قيام دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة على الاراضي المحتلة، بما فيها القدس.
هذا الغموض الذي يكتنف القضية الفلسطينية، وتوظيف الانقسام الأليم الحاصل بين القيادتين الفلسطينيتين الرئيسيتين، يتزامنان مع خطة ادارة بوش في الدعوة الى المؤتمر المبتور، لكونه يستثني اطرافاً رئيسيّين معنيين بالقضية الفلسطينية، ويحصرها بمن تختاره الادارة الاميركية المنحازة بدورها.
هذا المؤتمر يفترض شرعية الانقسام في موضوع مركزي كالقضية الفلسطينية، ويخرج من السياسات العربية قرارات القمة العربية الداعية الى السلام، كما يهمّش محصلة قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ولعل باكورة عملية الاخراج والتهميش، هو الالتباس الحاصل حول زيارة وزيري خارجية مصر والاردن لاسرائيل، من ناحية التمثيل لقرارات القمة العربية الاخيرة، وهذا ما يستوجب ازالة الالتباس كي لا تستمر اسرائيل في تمييع القرارات وتفسيرها على هواها، وجعلها احد خيارات الاجتماع الداعي اليه الرئيس بوش.
•••
يستتبع ذلك الارتباك الوارد في تقرير المخابرات الاميركية الاخير حول انجازات عسكرية وامنية حققها جيش الاحتلال في العراق، والفشل السياسي المقابل لحكومة الرئيس نوري المالكي في انجاز اي تقدم نحو المصالحة الوطنية.
بناء عليه، نلاحظ ان المؤتمر المبتور في اطاره وهدفه، ماضٍ دون الاعلان عن المأزق الاميركي في العراق وجعل القضية الفلسطينية ذريعة لتأجيل مساءلة الكونغرس لادارة بوش، والتي تزداد الحاحا واحراجا لها، ومحاولة ما لاستعادة بعض من الاعتبار لسياسته الخارجية.
•••
يفسّر هذا الوضع في المنطقة التعقيد المتزايد والمستمر في موضوع اخراج لبنان من الاستحقاق الرئاسي الذي كاد ان يصبح رهينة التنافسات الدولية والاقليمية، والذي يجب ان يدفع اللبنانيين الى استرجاع مفاعيل السيادة التي يدعون الى التزامها. والتوافق على رئيس قادر على تأمين اللحمة الوطنية التي يجب ان تكون اولوية الهم اللبناني، وليست حكومة الوحدة الوطنية. ودون ذلك يبقى لبنان رهينة لمداخلات تدعي احتضان فريق او آخر، وهي مستعدة للتخلي عن الرعاية اذا تحققت مصالحها في اي تسوية محتملة، كما يحصل في العراق وفي اماكن كثيرة اخرى.
•••
واخيرا، هناك بوادر لتغيرات في الطاقم السياسي الاميركي للمرحلة المقبلة كذلك هناك مخاض فكري وسياسي واجتماعي داخل الدولة الاقليمية ايران، مما يفسح في المجال امام العرب ليستعيدوا انفاسهم ويأخذوا زمام المبادرة لعودة التنسيق الملزم بينهم حتى يعيدوا اللحمة داخل اوطانهم، ويتريثوا في الاندفاع نحو التجاذبات الاقليمية والدولية فيتاح لهم درس نتائج المخاض وهكذا يستعيدون قدراتهم على ممارسة حقهم في تصليب مناعتهم والحؤول دون ديمومة الاستباحة.