قبل أكثر من عامين، عندما استفحلت الدعوة الى "الواقعية"، تساءلت في هذه الصفحة: "هل أنا رجعي؟"، وقد حرّضني على هذا التساؤل ان الدعاة الجدد الى "الواقعية" تعاملوا معها كأنها استسلام للواقع والعمل من خلاله بدلاً من التسليم به والسعي النشيط الى تغييره، وخصوصاً ان الواقع العربي في ذلك الحين كان يائساً من امكان التغلب على ذلك الواقع أو تطويره. وكان هذا الواقع يعاني تداعيات الغزو الاميركي للعراق وعقم "مسيرات" السلام و"خريطة الطريق" في فلسطين. كما ان ما افرزه هذا الواقع وجعل "الواقعية الجديدة" نمطاً متواصلاً هو معاهدة الصلح بين مصر واسرائيل والمعاهدة المماثلة التي تبعتها مع الاردن والمصالحات العلنية والمستترة التي تهافتت الانظمة العربية عليها في ما سمي "التطبيع".
وكان من نتيجة هذه التوجهات ان الاعتراض عليها اتهم باللاواقعية، وان الاصرار على وحدة المواقف العربية هو دليل "قومجية" رجعية، وان تأكيد وحدة المصير العربي هو استحضار لخطاب ثبت عقمه.
وفي احدى الندوات عن "التنمية الانسانية في الوطن العربي" التي عقدت في اطار معرض الكتاب في "البيال"، علّق أحد الطلاب الجامعيين بالقول انه يحترم مواقف اتخذتها في الماضي"، "لكن يا استاذنا لا تزال تتكلم بلغة الخمسينات والستينات (...)". وعلى رغم ادراكي ان هذا النقد عائد الى الاجواء العامة التي كانت سائدة ذلك الحين، والمتفاقمة الآن، اجبته: "صحيح اني اتكلم بلغة الخمسينات والستينات، لكن هذا لا يعني اني لا اتقن لغة القرن الحادي والعشرين، وبالتالي اسألك معتمداً على الجديد في اللغة، هل أنت شيعي أم ماروني؟". واستتبع ذلك تصفيق، مما جعلني ادرك ان "الواقعية الجديدة" تنطوي على تزوير لعناصر الوجدان القومي والوطني. وعاد السائل وقال لي: "أنا عربي من لبنان"، فكان التصفيق له أقوى.
الآن، لم اعد اكتفي بالسؤال: "هل انا رجعي؟" واكاد اسال نفسي، او يجب ان أسأل: "هل انا متخلف؟" فعندما اقرأ او اسمع ما جرى قبل انتخاب المتن الشمالي طوال الاسابيع الماضية، اعتقد انني عاجز كلياً عن فهم معنى "الشعب المسيحي"، كما "المرجعية المسيحية". انا افهم واعرف ان البطريركية في بكركي هي حتما مرجعية روحية واخلاقية ودينية، لكن لا افهم مطلقا ان تتحول معركة المتن استفتاء لمن يشكل "المرجعية السياسية للشعب المسيحي". صحيح انني مدرك ان التركيبة الطائفية للنظام اللبناني، في حال استفحالها، تفرز مثل هذه المغالطات، ومن شأنها ان تؤول الى الغاء عملي للبنان كوطن لمواطنيه وتحوّله اطاراً جغرافياً لـ"شعوبه"، ولكن هل هذه المفردات صارت مقبولة ويا للأسف في التداول السياسي؟ والكل يشاهد كيف ان اعلاء الطائفة كعنوان للانتماء والهوية حوّل العراق بحرا من الدم والتبعثر والانشطار والتهجير.
الم يكن يجدر بنا ان تتحوّل المعركة في المتن منافسة على برامج بدل ان تكون تسابقاً على من هو اكثر تقوقعاً حتى يكون مؤهلا ليصبح مرجعا "للشعب المسيحي"؟ عندما اسمع مثل هذه المفردات اشعر باستغراب كبير. فهل انا متخلف عن ركب "الواقعية الجديدة"؟ وهل اسقطنا من تاريخنا وذاكرتنا الوطنية امثال احمد فارس شدياق وامين الريحاني وجبران خليل جبران وشبلي الشميل ومارون عرب وابرهيم اليازجي، ناهيك بألوف الذين لا يزالون على قيد الحياة من شعراء وادباء وعلماء ومواطنين، يرفضون بالسليقة مثل هذه التصنيفات الغريبة عن ثقافتهم العامة وتجاربهم في الاندماج مع من لا يعتبرونهم من الغير؟
هذا ما يفسّر تحوّل التنافس الانتخابي صداماً، مما يجعل النتيجة خسارة حتى للذي يُنتخب، لان "الحيوية" التي انتجتها عملية الانتخاب تحولت اشبه بتفويت فرصة لانضاج عملية ديموقراطية واهدار لنشاط في غير محله.
•••
اذا كنت محبطاً من مفردات رافقت الحملة الانتخابية في المتن فهل يعني اني تخلفت عن مواكبة "التطور السياسي"، او "الفكر السياسي"؟
ان ما شاهدناه في الاسبوع المنصرم في المتن، هو مشهد اختصر الى حد ما، ما نراه على مستوى المنطقة بأسرها.
ولقد جاءت زيارة وزيري الخارجية والدفاع الاميركيين كوندوليزا رايس وروبرت غيتس لبعض الاقطار العربية "المعتدلة" بغية تسويق اسلحة اميركية والتمهيد لمؤتمر دولي من اجل تسوية اسرائيلية – فلسطينية، لتدفعني مرة اخرى الى مراجعة نقدية وسؤال معاد: هل انا في مجال "الواقعية الجديدة" اصبحت متخلفا عن فهم المفردات التي افرزتها دوافع هذه الرحلة التي قامت بها نخبة من المسؤولين في ادارة الرئيس بوش لعدد من عواصم الدول العربية؟
المهم ان الكلام الذي ارتبط بهذه الرحلة هو ان الادارة الاميركية ارادت ان تمنح لنفسها حق التصنيف من هو "المعتدل العربي" ومن هو المتطرف. التخلف الذي اكتشفته هو القبول التام – واحيانا الرضوخ – لهذا التوصيف من الانظمة التي استقبلت المسؤولين الاميركيين. هذا القبول بالمفهوم الاميركي يعني ان اسرائيل لم تعد "العدو" وانما الخصم، حتى لا نقول ان العدو اصبح ايران. هل يمكن ان ترضخ اي دولة عربية لهذا المنطلق المعوج؟ هل اصبح التطبيع مع اسرائيل بكل مستوياته هو ما يؤهلنا لوصفنا بـ"الاعتدال"؟ ويستتبع ذلك ان الحصول على هذا التوصيف يمنح "المعتدل" تذكرة دخول الى المؤتمر الدولي الذي تعد له الوزيرة رايس، كمؤسس لتغييب الفشل الذريع لمغامرة العراق من الارث التاريخي للرئيس بوش. فهل الاعتراض على الاعتدال بالتطبيع مع اسرائيل هو مرادف للتخلف؟ اسأل نفسي ولا اجرؤ على الاجابة.
لماذا لا تصنف الادارة الاميركية اسرائيل معتدلة او متطرفة؟ لسبب واحد هو ان اسرائيل في ادارة بوش تعتبر "من اهل البيت".
ثم، لماذا تحرص الادارة الاميركية على بيع اسلحة متطورة من اقطار عربية عدة بمبلغ عشرين مليار دولار، فيما تمنح اسرائيل 30 مليار دولار لمدة عشر سنين؟ ان طرح هذا السؤال مؤشر الى لا واقعية وجهالة، وبالتالي دليل على ادمان التخلف وعدم الاستعداد لاستيعاب المستجد. والمستجد في هذه الحالة ان معالجة الحقوق الفلسطينية يجب ان تأخذ طابعا انسانياً ومتطورا في البنى التحتية لادارة السلطة، وتمكين الرئيس "ابو مازن" الذي اثبت اعتدالاً مرموقا من الحكم والاستمرار.
واذا استوضحنا ادارة بوش معنى مطالبتها بأن تساعدها الاقطار العربية في اخراجها من مأزقها في العراق دون مساءلتها، كما يفعل الرأي العام الاميركي، عن مسؤوليتها ومسؤولية المحافظين الجدد عن هذا التهور، فهل تصبح المسألة "غير واقعية" ودليلاً آخر على التخلف؟
واذا سألنا "المعتدلين الجدد" لماذا التسرع في قبول صفقات الاسلحة الاميركية مع تصميم ادارة بوش على ان يبقى توازن القوة في المنطقة لمصلحة اسرائيل مرجحاً بل حاسماً، فهل يعني هذا تخلفا؟ ان مجرد التساؤل ثم المراجعة دليل على عجزنا عن فهم الواقع المستجد وبالتالي على التخلّف.