الضربة الاستباقية التي وجهتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الى خيار الرئيس التوافقي للبنان قبيل انعقاد مؤتمر اسطنبول اصبح عنصرا مكونا للبيان الذي صدر عن الاجتماع الجانبي المتعلق بالحالة اللبنانية. وعلى رغم ان مضمون البيان اخرج الجانب الاملائي في حديث الوزيرة الاميركية الا ان الحضور العربي الكثيف جعل التلبية العربية او التجاوب مع "الاملاء" قابلا للتطبيق ان لم يكن للاعتراض. بمعنى آخر: كانت مطالبة اكثرية الحضور بدعوة الوزير السوري وليد المعلم – وهو في طريقه الى المطار – بمثابة تسجيل مخالفة على سياق الدعوة الاميركية، وبالتالي تعطيل خجول لمفاعيل البعد الاملائي للضربة الاستباقية.
والاهم ان يعمل اللبنانيون على ترجيح اولوية التوافق تمهيداً لضمان مقتضيات الامن الوطني اي المصالحة التي تعيد اللحمة الوطنية وتؤكد سيادة المواطنة على الهويات القائمة على الانتماءات الطائفية التي تستمر في اضعاف مناعة الجسم الوطني اللبناني والحصانة لسيادته واستقلاله وحريته.
وفيما الاحداث المحيطة بلبنان تستمر في تعقيداتها يتصرف الكثير من الدول كأن لبنان ساحة مباحة، او حتى مستباحة، لتصفية حسابات، وذلك من خلال توظيف ما تتيحه الانقسامات الطائفية من فرص للتدخل الممعن في التفريق وتمزيق النسيج الاجتماعي والسلم الاهلي الذي طالما تاق اليه اللبنانيون المحرومون حقهم في تقرير مصيرهم وبالتالي طموحاتهم المشروعة وصيرورة تطلعاتهم المكبوتة واحيانا المقموعة.
وامام الحالة اللبنانية الراهنة تصبح الحاجة ملحة الى تمكين التوافق من التحقيق. ولا يعني ذلك مطلقا الا يكون للاكثرية النيابية او للمعارضة مرشح. لكن الحالة الراهنة تحولت وضعا استثنائياً خطيرا يتطلب ابحارا سليما وسط الاعاصير في المنطقة المحيطة بنا. واذا كانت القوى الدولية متداخلة ومتدخلة في شؤوننا فعلينا ان نؤكد في الايام القليلة المقبلة استقلالنا عن هذه القوى وان نستعيد البوصلة للابحار بنجاح وامان. الا ان هذا يبقى في حيز التمني اذا لم تتول العناصر السياسية مسؤولية اخراج نفسها من المآزق التي اوقعت نفسها فيها نتيجة مراهناتها، ومعظم الاحيان ارتهاناتها، مما جعلها عرضة لسلب ارادتها وتعطيل امكان قيامها بمبادرات مطلوبة. ان المراهنين والمرتهنين في معظم الطاقم السياسي الحالي لا يدركون - أو يتصرفون كأنهم فاقدو الادراك - ان الغير الاقوى يبدأ باستعمالهم ثم يسقطهم بعد استنفاد اغراضه من التعامل الموقت.
من هذا المنظور يتعين على كل من الاكثرية والمعارضة العمل العاجل لاستعادة قدرة اللبنانيين على المبادرة، ولعل الفرصة متاحة اليوم لاكتشاف القواسم المشتركة وجعل التوجه الى رئيس توافقي مناسبة لانقاذ لبنان من استباحة الضربات الاستباقية من أي صوب جاءت.
صحيح ان الرئيس التوافقي يعني رئيساً يستدرج التوافق، وقد يكون من مرشحي الاكثرية أو المعارضة. واذا تعثر هذا المجهول يصبح لزاماً أن نعض على الجروح، ونقدم على خطوات جسورة ليكون الرئيس القادم لا مجرد مطمئن الى كونه غير معترض عليه، بل يوحي فاعلية في تجرده ورصيداً من الحضور الملهم وطنياً وعربياً، حتى يساهم في استعادة هيبة الرئاسة ويعمل على توجيه السياسات الدولية والاقتصادية والاجتماعية نحو استقامة العمل السياسي، كالتزام مقتضيات حاجات الانسان وحقوقه، بالمساهمة مع السلطة التنفيذية والاشتراعية في ترسيخ العدالة والمفاهيم الحديثة للمواطنة.
بازاء هذا التحدي المباشر والداهم علينا الاستبطان باعادة فحص افكارنا ودوافع مشاعرنا، وان نقوم بهذه العملية سوية وفي سرعة لئلا يدهمنا الوقت. ويجب أن تكون حواراتنا مع أنفسنا وفي ما بيننا جميعاً قفزة نوعية نحو إتمام الاستحقاق المطلوب وجعله منطلقاً لاخراج لبنان من الطوق الخانق لإبداعاته، ومن المصيدة التي تجعل القلق السائد عائقاً امام تنمية واعدة وحائلاً معطلاً لطاقات متوافرة ورسولية مستنيرة تعمل على قمعها جاهلية متربصة وجهالة غاب عنها الطموح الى صناعة التاريخ.
•••
بعد مرور تسعين عاماً على وعد بلفور وسايكس - بيكو، وما اشبه اليوم بالامس، نجد ان وعود أوسلو، واليوم وعد مؤتمر أنابوليس تجتر السوابق حتى تجعل التقسيم في القرن العشرين تفتيتاً لأمتنا في القرن الحادي والعشرين. من هذا المنطلق يجب الاستعجال في تحصين مواقعنا كي نستبق فوراً الضربات الاستباقية الآتية الينا وحتى يتحول القلق السائد استحالة في التفاؤل.
وقد تكون الاستجابة في لبنان لهذا التحدي أن يكون الرئيس توافقياً يمهد للمصالحة الوطنية المستنيرة... والمنيرة!