في الوقت الذي تبحث فيه الحكومة التركية أمر تعديل الدستور التركي وإعادة النظر ببنية الدولة وتحديثها وتأهيلها لاستيعاب الصعوبات والصراعات التي مر بها المجتمع التركي خاصة وأنه قد مضى على إقرار الدستور الحالي أكثر من ربع قرن ولم يعد يتماشى مع التطور لا داخل المجتمع التركي ولا خارجه.
وقد تبنى ذلك حزب العدالة والتنمية بشجاعة وثبات بعد توليه السلطة بأكثرية شعبية مطلقة وأصبح يسيطر على منصب رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي، وقد سارت تركيا في عهده خطوات هامة في الاستجابة لمتطلبات الاتحاد الأوروبي تمهيداً لقبولها عضوا فيه، وتراجعت نسبياً سلطة الجيش المطلقة (حامي الأتاتوركية والعلمانية).
وسحبت الحكومة البساط من تحت قدميه جزئياً، وفي هذه الظروف تعرضت تركيا لما لم يكن في الحسبان، فمن جهة أقرت لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس (وشجبت) ارتكاب الدولة العثمانية مجزرة بحق الأرمن في مطلع القرن الماضي وسمتها إبادة جماعية مما يرتب على تركيا الحالية مسؤوليات أخلاقية وسياسية ومالية.
ومن جهة أخرى قامت مجموعة من حزب العمال الكردستاني (التركي) المعارض بقتل ثلاثة عشر جندياً تركياً فأطلقت شرارة العنف ووضعت بذلك حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أمام خيار صعب لابد منه وهو الرد على عمليات حزب العمال (الإرهابي).
والتمهل في تعديل فقرات الدستور المتعلقة بالأقليات التي ستجد في هذه الظروف رفضاً شعبياً لا شك فيه وتنازلاً للأقليات لا مبرر له، والوقوف بحيرة أمام المطالب الأميركية والأوروبية والعراقية والداخلية والاضطرار لتبني مواقف متطرفة في مجالات عديدة لم ترغب في أن تكون متطرفة فيها بعد أن شاع عن حزب العدالة والتنمية حكمته واعتداله وأناته.
كانت تركيا في علاقاتها مع الولايات المتحدة التي يصل عمرها إلى ستين عاماً خاتماً طيعاً في يد السياسة الأميركية ورأس حربة ضد الاتحاد السوفييتي والقوى الشيوعية وعضواً فعالاً في حلف شمال الأطلسي، وفجأة تحولت العلاقة مع الولايات المتحدة إلى مولد للصعوبات وعقبات طارئة سلبية تجاه الحكومة التركية.
وخاصة الموقف من الأرمن ورفض دخول الجيش التركي شمال العراق، وإقرار الكونغرس تقسيم العراق مما يعني تهيئة الظروف لتأسيس دولة كردية في الشمال العراقي على حدود تركيا، أمام هذا كله رأت السياسة التركية أن الولايات المتحدة لم تعد تأخذ مصالحها بعين الاعتبار فاستدعت سفيرها من واشنطن (وهذه أول مرة يحدث فيها مثل هذا الأمر) وكانت رسالة واضحة (وربما صاعقة) للإدارة الأميركية التي سرعان ما أرسلت مبعوثين إلى تركيا لشرح موقفها الذي يتعذر شرحه أو قبوله من وجهة نظر تركية مهما كانت الأعذار والمبررات.
لكي تدخل تركيا المنظومة الأوروبية مطلوب منها أن تعدل دستورها ليخدم حقوق الأقليات فيها وتتخلى عن امتيازات الشعب التركي تجاه الأقليات القومية الأخرى وبالتالي عليها حسب الرغبة الأوروبية أن لا تلاحق حزب العمال الكردستاني بل والأكثر من ذلك أن تسعى لعقد محادثات معه للوصول إلى توافقات تحترم حقوق الأكراد في تركيا، ولاشك أن هجوم حزب العمال الأخير وقتل جنود أتراكاً ورد فعل هذا الحزب المقبلة سوف تجعل من الصعب على حكومة أردوغان تعديل الدستور باتجاه إعطاء الأكراد حقوقهم أو الامتناع عن قصف مواقع حزب العمال سواء في تركيا أم في القرى العراقية المجاورة، التي بدا القصف التركي لها فعلاً.
وباسم مكافحة الإرهاب ستجد حكومة أردوغان نفسها بحاجة للجيش الذي بدأ يتراجع وإعادة الاعتبار إليه وهو ما لا ترغب فيه لا الحكومة ولا الشعب. وفي الشأن العراقي تخشى الحكومة التركية انفصال الأكراد في كردستان العراق وتشكيل دولتهم التي سيعمل أكراد تركيا على أمل تشكيل مثلها.
وفي الحالات كلها فإن أقل ما يمكن أن تحصل عليه كردستان العراق مستقبلاً سيكون مغرياً لأكراد تركيا، وفي الوقت نفسه فإن دخول تركيا عسكرياً لشمال العراق سيخلق مشاكل جدية مع الحكومة العراقية ومع الإدارة الأميركية التي يصعب عليها في ظل احتلالها للعراق السكوت عن دخول قوات عسكرية تركية إلى شماله.
وسيلاقي دخولها احتجاجاً شديداً من الحكومة العراقية ومن السلطات الكردية في كردستان العراق، ويزيد الأمر صعوبة أن دول جوار العراق ستجتمع في اسطنبول قريباً لبحث شؤون العراق فكيف يستوي ذلك مع دخول الجيش التركي لاحتلال الشمال العراقي.
إن هذه الأحداث الطارئة قبيل انتهاء حكومة رجب طيب أردوغان من إنجاز الدستور الجديد عرقل في الواقع مسيرة الإصلاح الدستوري والمجتمعي التركي، فقد أعدت الحكومة التركية إعداداً جيداً لمسودة الدستور وخاصة المواد المتعلقة بالأقليات القومية، وتتهيأ لطرحه على النقاش الشعبي، وكانت تأمل مخلصة أن تطور مضمون الدولة التركية من خلال الدستور الجديد وأن ترضي الأقليات القومية.
وتنهي سلطة العسكر وهيمنتهم التي بنوها تحت شعارات مجد الشعب التركي والافتخار بالانتساب إليه وإجبار القوميات أن تنسى لغتها وثقافتها ومصالحها وآمالها وحقوقها، وكان أردوغان سيحقق حلماً تاريخياً يؤمن به فعلاً ويسعى إليه ويرى أنه طريق الخلاص من مشاكل صعبة قائمة داخل المجتمع التركي ويخلص بلاده من التوتر القائم في داخلها ومن منابع الإرهاب التي يسببها.
ويدخل أردوغان وحزبه بذلك التاريخ كمطور لمفهوم الدولة التركية وتحويلها إلى دولة حديثة بالفعل، مما تستحق معه قبولها في رحاب الاتحاد الأوروبي الذي تسعى إليه وترحب به جميع شرائح الشعب التركي، وتحاول تحقيق قائمة المطالب الأوروبية (التي لا تنتهي) بعد أن استجابت حكومات حزب العدالة والتنمية لبعضها في السابق (مثل إلغاء عقوبة الإعدام).
ووعدت أن تستجيب لما تبقى منها في القادم من الأيام، لكن ما جرى ويجري مع حزب العمال ومع الولايات المتحدة ومع شمال العراق قد يقطع الطريق على تعديل مقبول شعبياً للدستور ويزيد التطرف تطرفاً هنا وهناك ويؤدي لرفض شعبي للتعديل المفترض وبالتالي يعطي حججاً جديدة للقوى الأوروبية المعادية لدخول تركيا لمنظومة الدولة الأوروبية كي تزيد نشاطها وتقنع غيرها بضرورة استبعاد تركيا عن ساحة الوحدة الأوروبية.
لقد انفجرت الصعوبات دفعة واحدة أمام الحكومة التركية، سواء باستعادة مشكلة الأرمن أم باستئناف حزب العمال الكردستاني أعماله العنفية أم بالتهديد القادم من شمال العراق أم بالخلافات مع الولايات المتحدة أم باضطرارها مداراة العسكر.
ولابد أن الحكومة التركية حائرة الآن كيف ترضي شعبها وتطبق برامجها وترضي الأوروبيين والأميركان وتتفادى حروباً وأعمال عنف مع حزب العمال أو مع شمال العراق كما تتفادى الإساءة للعلاقات مع العراق والجيران الآخرين، وتستمر في طريق تحجيم تدخل جيشها في الوقت نفسه في شؤون السياسة الداخلية، وكلها مهمات صعبة ومتناقضة، إنها المعضلة حقاً أمام حزب العدالة والتنمية وربما الأصعب في مسيرته كلها السابقة واللاحقة.