برر الرئيس جورج بوش غزو جيوشه للعراق بنزع أسلحة الدمار الشامل حيث كانت الإدارة الأميركية تصر على أن النظام العراقي السابق يمتلكها وبالتالي فهي وسيلة تهديد لدول الجوار وللعالم (الحر) وأداة دعم للإرهاب الذي يمكن أن تتسرب إليه مستقبلاً.
وبذلك يكون هذا الإرهاب قد امتلك أسلحة خطرة على البشرية تهدد أمنها ومستقبلها وحضارتها، وتقدم كولن باول وزير الخارجية الأميركية قبيل الغزو إلى مجلس الأمن ما اعتبرها (أدلة) بالصوت والصورة (اعتذر لاحقاً عن عدم صحتها) ولعلها المرة الأولى التي يشهد فيها أعضاء المجلس أفلاماً (وثائقية) في قاعة اجتماعاتهم.
ولم تأل وسائل الإعلام الأميركية جهداً في تأكيد مزاعم إدارتها، وعندما لم تستطع الإدارة الأميركية انتزاع موافقة مجلس الأمن الدولي على غزو العراق لعدم قناعة أعضائه بمبررات هذا الغزو ضربت آراءهم عرض الحائط وغزت العراق وهو البلد المستقل ذو السيادة بقرار فردي دون الاهتمام حتى برأي حلفائها قبولاً أو رفضاً.
ولما تكشف بعد الغزو خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل وانكشفت المبررات الزائفة والأكاذيب الأميركية في وجود هذه الأسلحة وقع الرئيس الأميركي في حرج شديد أمام شعبه وشعوب العالم وحلفائه والمناوئين للحرب بدلت السياسة الأميركية أهدافها المعلنة.
وقالت إنها غزت العراق لتخليص شعبه من الديكتاتورية والاستبداد وتحويل النظام السياسي العراقي إلى نظام ديمقراطي صالح لأن يكون أنموذجاً للديمقراطية في البلدان العربية.
وربما في بلدان الشرق الأوسط عامة، ووسيلة إغراء لشعوب هذه البلدان تحرضها على إقامة أنظمة ديمقراطية مماثلة اقتداء بالعراق وتتخلص من أنظمتها القائمة وتمهد الطريق لقيام الشرق الأوسط الجديد الديمقراطي في إطار معايير الإصلاح والتطوير والتحديث.
ويتحقق بذلك حسب الزعم الأميركي، السلم والأمان في المنطقة وفي العالم، وينتهي إلى الأبد الاستبداد والفساد والظلم والتطرف، وبذلت الإدارة الأميركية أقصى جهودها لإقناع شعبها وشعوب العالم وأعضاء مجلس الأمن (حلفاء وغير حلفاء) بنبل أهدافها، وأمام ضغوطها الاستثنائية حصلت على قرار من المجلس يعطي بعض (الشرعية الدولية) لاحتلالها حتى لو كانت شرعية عرجاء وإذعاناً لاشك فيه. وامتثالاً لضغوط لم تشهد دول المجلس مثلها من قبل.
ما حصل في العراق بعد ذلك جراء الاحتلال الأميركي لم ينبئ بان الاحتلال جاء لنزع أسلحة الدمار الشامل التي كان يعرف أنها غير موجودة ولا لتحويل النظام السياسي العراقي إلى نظام ديمقراطي عكس ادعاءاته بدليل ما اتخذ من إجراءات بعيدة عن هذه الأهداف:
فقد أعطى بعيد الاحتلال لشخص واحد هو بول بريمر الحق بإصدار المراسيم التشريعية والقوانين وتطبيقها أي منحه صلاحيات السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو شخص فرد غير عراقي، فقام لتوه بحل الجيش العراقي (الذي يحافظ على وحدة أراضي البلاد والسيادة عليها) وحل القوات المسلحة الأخرى (الشرطة والأجهزة الأمنية وغيرها) كما حل إدارة الدولة بكاملها فأصبح العراق بلا دولة ولا إدارة ولا جيش.
ثم شكل بريمر بقرار منه مجلس الحكم وأعطاه صلاحيات تشريعية وتنفيذية، وكان تشكيل هذا المجلس غريباً عجيباً حيث اعتمد على المحاصصة في توزيع عدد أعضائه على الطوائف والقوميات لأول مرة في تاريخ العراق، مما أثار لدى الشعب العراقي غرائز القبلية والعشائرية والمذهبية والطائفية والعداء القومي، وقرر بريمر من خلال هذا المجلس وحسب مزاجه نسبة عدد الشيعة في العراق ونسبة عدد السنة والأكراد والتركمان وغيرهم.
ولم يعد العراق بلداً واحداً موحداً بل تجمعاً لطوائف وإثنيات وما يشبه ذلك، وكرس تقليداً جديداً في تقسيم السلطة إلى حصص وتوزيعها على مكونات الشعب العراقي، ولم يكن بالإمكان بعدها إلا أن يكرس الدستور الذي صدر بعد الغزو التقليد الذي استنه بريمر وجرت الانتخابات النيابية حسب هذه المحاصصة، في بلد منهار مدمر بلا دولة ولا إدارة.
وحتى أبنية الدولة دمرت أو سرقت أو نهبت باستثناء وزارة النفط (سبحان الله لهذه الصدفة) واستطاع البعض ـ رغم ذلك ـ أن يمدد أنابيب خاصة على حسابه ولحسابه، مما أتاح لكل فصيل اجتماعي أو مذهبي أو إثني أو سياسي أن يبحث عما يحميه في هذه الفوضى العارمة فعمل كل لحماية نفسه بنفسه وحلت الميليشيات المتعددة محل الدولة والقوى المسلحة واخترعت قوانينها التي لا تبتعد كثيراً عن فوهة البندقية.
وكان طبيعياً أن ينتشر القتل على الهوية والنهب والفصل الطائفي والترحيل وبناء الحواجز بين أحياء المدن وحاراتها وحلت الفوضى وانتشرت وتعمقت حتى خرجت عن طاعة الأميركيين والحكومة العراقية.
ولم تنفع لا زيادة عديد قوات الجيش الأميركي ولا محاولاتها إقامة تجمعات عشائرية جديدة أو تأسيس ميليشيات في كبح جماح هذه الفوضى، وغدا (العراق الديمقراطي) الذي بشرتنا به السياسة الأميركية يوماً بقيامه وتحوله إلى مثل أعلى للديمقراطية، غدا مثالاً للدمار والفوضى وتفتيت الشعب العراقي وإثارة كل أنواع الغرائز والموبقات من غرائز الطائفية والصراع الإثني إلى غرائز القتل والنهب والتصفية والدمار.
ثم كانت خاتمة المطاف مسكاً أتحفنا به الكونغرس الأميركي الذي أعطى لنفسه حق التشريع بدلاً من شعب العراق وألغى السيادة العراقية بل ألغى الدولة برمتها وقرر تقسيم العراق إلى ثلاثة (أقاليم) وهذه في الواقع وحسب الظروف الحالية ثلاث (دول).
ورغم هذا كله فإن الرئيس الأميركي مازال يصر على وجود ونمو الديمقراطية في العراق وإمكانية أن تكون مثالاً للشعوب المجاورة، بينما أقنعت سياسته الشعوب المجاورة بأنه إذا كانت هذه هي الديمقراطية التي يقدمها النظام العالمي الجديد فإن هذه الشعوب لا تريدها بل تعاديها لأنها نموذج للدمار والقتل واللصوصية وتفتيت البلاد.
وبالتالي فإن الأنظمة الاستبدادية القائمة في بعض بلدان المنطقة أصبحت أفضل ألف مرة في نظر هذه الشعوب مما هو عليه حال العراق، وبذلك تكون السياسة الأميركية سبباً مباشراً لتأخير التطور والإصلاح والتحديث وبناء الدولة الحديثة.
إن المتتبع لتطور أحوال العراق منذ الغزو حتى الآن والمطلع على واقعه الحالي، وسواء كان صديقاً للسياسة الأميركية أم عدواً لها لا يمكن له إلا أن يعترف بأن ما جرى ويجري في العراق أدى ويؤدي لإبعاد الديمقراطية عن أنظمة البلدان العربية، ويقدم مثالاً سيئاً عنها وعما بشرتنا به الإدارة الأميركية قبل عدة سنوات. وفي الخلاصة ساهمت السياسة الأميركية في عدم الاستفادة من إرهاصات الإصلاح والتطوير والتحديث والديمقراطية التي كانت تلوح في الأفق في السنوات الأولى من هذا القرن قبل غزو العراق.